لم يعد “المحتوى الهابط” على المنصات الرقمية مجرد انحراف عابر أو ممارسة فردية معزولة، بل تحول إلى ظاهرة متجذرة تغذيها سهولة الربح وغياب الضوابط والرقابة، وتستهدف جمهورا واسعا من المراهقين والقاصرين بمقاطع صادمة وبثوث مباشرة تخدش الحياء العام، لاسيما بعد أن تحولت بعض المنصات إلى فضاءات تعيد تشكيل السلوك والقيم داخل البيوت، وتفرض أوامرها على الأذواق في غياب تربية رقمية فعالة، حيث بات بعض صناع المحتوى يستثمرون في الصدمة والإغراء لتحقيق مكاسب غير مشروعة، غير مكترثين بتداعيات ما ينشرونه على المجتمع ونسيجه الأخلاقي.
وكشفت حملة التوقيفات الأخيرة، التي طالت عددا من صناع المحتوى بعدد من مدن المملكة، عن حجم التحول الخطير الذي يعرفه الفضاء الرقمي بالمغرب، بعدما تجاوزت بعض القنوات حدود الترفيه والإبداع إلى الاتجار الرقمي في الأجساد وبث مضامين تستفز الذوق العام وتستهدف الفئات الهشة داخل المجتمع، ما دفع بالسلطات القضائية والأمنية، وعلى رأسها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية وضباط الجريمة المعلوماتية، إلى تكثيف تحركاتهم لوقف موجة هذا الانفلات وضبط الفضاء العام، وفتحت تحقيقات موسعة أسفرت عن اعتقال عدد من صناع المحتوى المنحرف، وذلك في سياق تزايد الشكايات المقدمة من قبل أسر وهيأت حقوقية .
ليلة سقوط آدام بنشقرون
لم يكن “التيكتوكر” المثير للجدل آدم بنشقرون ووالدته يعتقدان أن ينتهي بهما المقام بحي “الأمل” الشعبي بطنجة للاعتقال والسجن، بعدما طردا من السعودية والإمارات عقب نشرهما لمقاطع جنسية صادمة، إذ بعد استقراراها بعاصمة البوغاز في محاولة لاستعادة حضورهما الرقمي عبر خرجات مباشرة مثيرة للجدل، ضيق سكان الحي الخناق عليهما بسبب الإزعاج الصادر عن البث الليلي المباشر لمقاطع مليئة بإيحاءات جنسية تمس بالحياء العام وتستمر إلى ساعات متأخرة، وهي سلوكات استنفرت سكان الحي ودفعتهم إلى رفع شكايات رسمية للسلطات الأمنية، إلا أن عدم التدخل أدى إلى تطور الوضع الى مواجهات جسدية مباشرة بين السكان و”التيكتوكر، ووالدته، نتج عنها إصابات وخسائر مادية.
وفور توصلها بالخبر التحقت عناصر الدائرة الأمنية العاشرة بمكان الحادث، وقاموا بالتدخل لفض الاشتباك، فيما أمرت النيابة العامة المختصة بفتح تحقيق حول الواقعة لتحديد المسؤوليات واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. وهي التحقيقات التي كشفت عن النشاط الافتراضي الصادم، وأسفرت عن اعتقال بنشقرون ووالدته.
وعند البحث معهما، أمر قاضي التحقيق بإيداع الأم المشتبه فيها سجن أصيلة المخصص للنساء، إلى حين الاستماع إليها تفصيليا حول التهم الموجهة إليها، وتتعلق بجناية “الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي للأصول عن طريق إنتاج مواد إباحية وبثها على نطاق عابر للحدود الوطنية من شأنها الإضرار بالأطفال، إلى جانب الاشتباه في بث ادعاءات كاذبة قصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص والتشهير بهم، والعري، والقذف، والسب، وممارسة العنف”.
أما بخصوص ابنها آدم، المعروف بنشاطه المثير للجدل وميولاته الجنسية الشاذة، قرر قاضي التحقيق إحالته على المحكمة الابتدائية بطنجة، بعد أن اعتبر أن الأفعال المنسوبة إليه تدخل في نطاق الجنح، وتتعلق بـ “الشذوذ الجنسي، والإخلال العلني بالحياء، وصنع وإنتاج محتوى إباحي”، وهي التهم يرجع اختصاص البت فيها للنيابة العامة بابتدائية المدينة.
جمعية تجر “مولينيكس” للسجن
اسم “مولينيكس” لم يكن مجرد لقب عابر على المنصات الرقمية، بل أصبح خلال الشهور الأخيرة رمزا لموجة من المقاطع الجنسية الفجة، التي يقوم بنشرها عبر منصات أجنبية أو حسابات وهمية، تتضمن إيحاءات صادمة ومشاهد تستغل فيها نساء وفتيات في أوضاع مريبة، بعضهن قاصرات دون 18 سنة، إذ مع اتساع رقعة انتشار تلك المقاطع، بدأ الغضب يتزايد داخل الأوساط الحقوقية، خصوصا بعدما اتضح أن صاحبها يستثمر في الإثارة الجنسية لتحقيق الربح، في تجاهل تام للقانون والقيم.
أمام خطورة المحتويات المنشورة، تقدم رئيس “هيأة الضمير الوطني للدفاع عن حقوق الإنسان” بشكاية رسمية إلى النيابة العامة، اتهم فيها “مولينيكس” ببث مضامين مخلة ومحرضة على سلوكات منحرفة، ليتم إيقافه فور وصوله إلى مطار مراكش الدولي، أثناء عودته إلى المغرب، ٠ مذكرة بحث وطنية صرت في حقه، وجري نقله إلى طنجة لمباشرة البحث معه في المنسوب إليه.
وبعد تحليل المحتويات والمعطيات الرقمية التي ضبطت بحوزته، قرر الوكيل العام لدى استئنافية طنجة متابعه بـ 14 جناية، تتضمن تهما ثقيلة من أهمها الاتجار بالبشر عبر الاستغلال الجنسي، ودعارة الغير من خلال نشر مواد إباحية تخص قاصرا أقل من 18 سنة، وبث محتويات ضارة بالأطفال، والاستغلال الجنسي العابر للحدود، إضافة إلى تهم أخرى مثل المس بالحياة الخاصة، وحيازة مواد إباحية، وممارسة أنشطة جنسية غير قانونية، والتحريض على الفساد، ليتم إيداعه السجن المحلي بطنجة في انتظار إخضاعه لتحقيق تفصيلي قبل عرضه على العدالة.
عقوبات تصل إلى 30 سنة
في حديث مع مسؤول قضائي، أوضح أن التهم الموجهة للموقوفين الثلاثة تندرج في نطاق الاتجار بالبشر كما يحدده الفصل 448 من القانون الجنائي المغربي، الذي يشدد العقوبات كلما تعلق الأمر باستغلال جنسي لقاصر أو إنتاج مواد إباحية ذات بعد عابر للحدود. وأكد أن هذا الفصل يرتب عقوبات قد تصل إلى 30 سنة سجنا نافذا عندما يثبت استغلال أطفال أو قاصرين في أنشطة ذات طبيعة جنسية، مع غرامات مالية قد تبلغ 20 مليون درهم.
وأضاف المسؤول ذاته أن خطورة الأفعال التي يتابع بها بنشقرون ووالدته، إلى جانب “مولينيكس”، لا تكمن فقط في خدش الحياء العام، بل في “تحويل الوسائط الرقمية إلى أدوات استغلال منظم، يتغذى على هشاشة الضحايا ويحقق أرباحا عبر محتويات تستهدف فئات قاصرَة”، وهو ما دفع النيابة العامة إلى تفعيل أشد المقتضيات القانونية المطبقة في هذا النوع من الجرائم.
صدمة اجتماعية وأسر غاضبة
خلفت قضيتا “بنشقرون” و”مولينيكس” موجة استنكار واسعة داخل عدد كبير من الأسر المغرببية، التي رأت في انتشار هذا النوع من المحتويات الجنسية العنيفة مؤشرا خطيرا على الانفلات الرقمي الذي بات يهدد القاصرين بشكل مباشر. واعتبرت أن الواقع لم يعد مجرد حالات معزولة، بل نذير أزمة قيمية تعيد تشكيل سلوكيات الناشئة وتربك جهود التربية داخل البيوت والمدارس، في وقت تجد فيه الأسر نفسها عاجزة أمام تغول منصات تمنح “شهرة مجانية” مقابل تقديم محتويات صادمة.
ولم يخف البقالي مصطفى، وهو أستاذ بإحدى ثانويات طنجة، قلقه من التحولات السلوكية التي بدأت تظهر على الأطفال والشباب بفعل سهولة الوصول إلى المحتويات الجنسية المقنعة في قالب ترفيهي، وأكد أن سلوك القاصرين تغير بشكل واضح، بعد أن تسللت إلى أحاديثهم اليومية مفردات غريبة وإيحاءات لم تكن مألوفة من قبل.
وقال البقالي إن “المنصات الرقمية تحولت تدريجيا إلى”مدرسة موازية للانحراف”، تعيد تشكيل تمثلات الشباب حول الجسد والعلاقات والقيم، وتمنح “شرعية زائفة” لمضامين لا تخضع لأي معايير أخلاقية أو تربوية”. وحذر المتحدث من أن استمرار انتشار هذا النوع من المحتويات سينتج جيلا يتعامل مع الانحراف باعتباره شكلا من أشكال النجاح السريع، ما يتطلب تدخلا عاجلا يعيد ضبط العلاقة بين المراهق والفضاء الرقمي قبل فوات الأوان.
من جهتها، عبرت الزهرة الشنتوف، وهي ربة بيت وأم لثلاثة أطفال، عن خوفها قائلة “لم نعد نعرف ماذا يشاهد أطفالنا، حيث أصبحنا لا نستطيع مراقبتهم بعد أن باتت دقيقة واحدة كافية ليدخل الطفل في عالم لا يليق بسنه”، وأبرزت أن المحتويات الإباحية التي تبثها بعض القنوات الرقمية لا تع٠د فقط صدمة أولى لدى المراهق، بل تفتح بابا لتطبيع سلوكيات منحرفة، مؤكدة أن الخطر الحقيقي يكمن في تحويل الإثارة الجنسية إلى مادة ترفيهية سهلة الوصول، خاصة في ظل غياب الرقابة الذاتية لدى القاصرين.
حقوقيون يدقون ناقوس الخطر
أمام هذا المد الرقمي المنفلت، رفعت هيآت ومنظمات حقوقية صوتها محذرة مما وصفته بـ “انهيار الحدود الأخلاقية داخل الفضاء الرقمي”، معتبرة أن ما جرى في قضيتي “بنشقرون” و”مولينيكس” لم يعد مجرد تجاوزات فردية، بل نموذجا صارخا لاستغلال الفئات الهشة عبر محتويات إباحية ذات بعد عابر للحدود.
ويرى أنوار كلافي، بمحام بهيأة طنجة، أن الترسانة القانونية الحالية، رغم صرامتها في بعض بنودها، لم تعد كافية لمواجهة أشكال جديدة من الجريمة الرقمية التي توظف تقنيات متطورة وأسماء مستعارة وخوادم خارج المغرب، ما يستدعي تحيين التشريعات، وتوسيع نطاق المتابعة ليشمل كل من يشارك في نشر أو ترويج مواد جنسية تستهدف القاصرين.
وأكد كلافي، على ضرورة سن قوانين خاصة بحماية الطفل في العالم الرقمي، وإلزام الأسر والمؤسسات التعليمية بتبني برامج للتربية الرقمية تساعد القاصرين على التمييز بين المحتوى الآمن والمحتوى الضار، وتحصينهم من الاستغلال أو التأثير السلوكي، وذلك بموازاة مع تشديد الرقابة على المنصات الرقمية، وإطلاق آليات فعالة للتبليغ عن المحتويات الضارة بالقاصرين، مع تحميل الشركات المالكة للمنصات جزءا من المسؤولية في فلترة المقاطع الصادمة ومنع انتشارها.
المجهودات الأمنية متواصلة
في موازاة القلق الأسري والحقوقي المتصاعد، وجدت الأجهزة الأمنية نفسها أمام موجة غير مسبوقة من المحتويات الإباحية التي تستهدف القاصرين، ما دفعها إلى رفع درجة اليقظة الرقمية ورصد الحسابات التي تبث مضامين مخلة أو تحرض على الانحراف.
وأكد مسؤول بولاية أمن طنجة أن فرقة الجريمة المعلوماتية عززت خلال الشهور الماضية آليات التتبع والمراقبة اعتمادا على تقنيات تحليل رقمية متطورة، مبرزا أن الفضاء الرقمي، مهما بدا معقدا، يترك دائما آثارا تقنية يمكن استغلالها للوصول إلى أصحاب المقاطع المنشورة.
وأوضح المصدر، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، أن عددا من الملفات التي أثارت، أخيرا، ضجة واسعة، من بينها ملفا “أدام بنشقرون” و”مولينيكس”، انطلقت من شكايات أسر وهيآت حقوقية، لتباشر الفرق المختصة بعدها عملية جمع للمعطيات الرقمية وتحديد مصادر البث، قبل إقامة ملفات تقنية دقيقة أحيلت على النيابة العامة.
وأشار إلى أن التعاون بين الشرطة القضائية والنيابة العامة أتاح تفكيك عدد من الشبكات الرقمية عبر إصدار مذكرات بحث وطنية أو توقيف المشتبه فيهم فور تحديد ارتباطهم بالمحتويات المجرمة، مؤكدا أن العمل الأمني لا يقتصر على الجانب الزجري فقط، بل يشمل كذلك مراقبة مستمرة للحسابات والمنصات التي يشتبه في توظيفها لنشر مضامين تستهدف الأطفال والقاصرين.
“تراند”: غضب افتراضي ونقاشات حارقة
لم تتوقف تداعيات حملة التوقيفات الأمنية، التي طالت مؤخرا عددا من مشاهير صناع المحتوى في المغرب، من بينهم “بنشقرون” و“مولينيكس”، عند ردهات المحاكم، بل امتدت إلى الشبكات الاجتماعية التي اشتعلت بنقاشات واسعة سرعان ما دفعت بالقضيتين إلى صدارة “التراند” الوطني خلال الأيام الماضية، حيث تعالت أصوات فاعلين حقوقيين وثقافيين بضرورة استمرار هذه الحملات، وطالبوا بوضع نصوص تشريعية واضحة تنظم عمل “المؤثرين” وعلاقتهم بالمنصات العالمية.
وكتب “هشام”، أحد رواد “فيسبوك”، أن ما يجري لم يعد مجرد تجاوزات فردية بل انهيار أخلاقي يجب التصدي له قبل أن يصبح جزءا من ثقافة الأجيال الجديدة”. أما “سلمى”، وهي أم لطفلين، فعلقت بأن المقاطع التي تروج تحت غطاء الترفيه، تتسلل إلى أذهان القاصرين بشكل خطير، ما يستجوب عدم تركهم في مواجهة هذا الانفتاح المسموم دون حماية.
وعلى “إنستغرام”، عبر عدد من المؤثرين عن صدمتهم من حجم الإقبال على المحتويات الجنسية المقنعة، وكتب أحدهم أن “الخطر الحقيقي ليس في صانع المحتوى فقط، بل في الجمهور الذي يدعمه ويمنحه الشهرة”. بينما طالب آخرون بإطلاق حملة وطنية لمكافحة “المحتوى الهابط”، مشددين على ضرورة تعزيز التربية الرقمية داخل المنازل والمدارس.
في المقابل، أجمع عدد من الرواد أن ما كشفته التحقيقات بخصوص الشبكات التي كانت تحرك مقاطع “مولينيكس” وتحديات “بنشقرون” يعكس وجود “اقتصاد خفي” قائم على الاستغلال الرقمي، وهو ما عبر عنه “مروان” بقوله “لم نعد أمام فيديوهات عابر، نحن اليوم أمام منظومة تنسج خيوطها عبر منصات مختلفة، وتستفيد من هشاشة القاصرين”.
ورغم اختلاف الآراء، أكد غالبية المعلقين على أن ما وقع يفرض تدخلا مؤسساتيا يعيد ضبط قواعد المسؤولية الرقمية، ويمهد لمرحلة جديدة يتعامل فيها المجتمع مع حماية الأطفال كأولوية رقمية لا تقبل المساومة.
المختار الرمشي (الصباح)
