بعد فترة استراحة اضطرارية لم تدم سوى بضع سنوات، عاد من جديد فلاحو الجماعات القروية بإقليم العرائش إلى عادتهم القديمة، وحولوا جل أراضيهم من زراعة الحبوب والشمندر السكري وبعض الخضروات والفواكه، إلى زراعة “قنب الهندي”، التي غطت أوراقه مناطق واسعة خلفت أضرارا جسيمة بالمحيط البيئي، وساهمت في ارتفاع نسبة الجريمة الناتجة عن الصراعات والنزاعات بين المزارعين والمتاجرين في هذه النبتة المحظورة.
فالحملات المشددة التي شنتها السلطات الإقليمية بالعرائش في السنوات الأولى من القرن الحالي، وتم خلالها اجتثاث وإتلاف مساحات واسعة من حقول القنب الهندي قدرت بآلاف الهكتارات، لم تكن رادعا حقيقا لثني سكان الجماعات القروية بحوض اللوكوس عن زراعة هذا النوع الفلاحي المحظور، لكون جل الفلاحين بمختلف القرى ودواوير الإقليم، عادوا بقوة لممارسة أنشطتهم السابقة وقاموا بزراعة معظم أراضيهم بسنابل القنب الهندي، المعروف في الأوساط المحلية بـ “الكيف”، بما فيها أراضي الجموع وأراضي الأحباس التابعة لوزارة الأوقاف.
وعرف الموسم الفلاحي لهذه السنة (2018)، اتساع نطاق زراعة قنب الهندي بشكل مثير ومخيف، حيث غزت هذه النبتة مئات من الحقول التي فضل أصحابها ممارسة هذه الأنشطة المحرمة، وشملت جل الجماعات القروية الواقعة بدائرة العرائش، بما فيها بني جرفط وزعرورة وبني عروس وتازروت وعياشة، وكذا الجماعات التابعة لدائرة القصر الكبير، خاصة تطفت وبوجديان وريصانة وسوق الطلبة.
وأكد عدد من سكان المنطقة، أن عودة فلاحي المنطقة لهذه الزراعة وتهافتهم عليها راجع بالدرجة الأولى إلى رغبتهم في مضاعفة مداخلهم وتحسين ظروفهم المعيشية، لاسيما بعد ارتفاع السومة الكرائية للبقع الأرضية إلى مستويات قياسية، وتضاعف ثمن البقع المتوفرة على موارد مائية وبيئة مثالية إلى عشرات المرات أو أكثر، وهو ما دفع بجل السكان إلى الاستجابة والرضوخ لطلبات عدد كبير من السماسرة المتخصصين في هذا المجال، الذين ساهموا في هيمنة زراعة الكيف على النظام الزراعي لدى الفلاحين الصغار بالمنطقة، ورفعوا من مؤشر الأنشطة الاقتصادية المشبوهة لدى السكان إلى درجات غير مسبوقة.
وأوضحت نفس المصادر، أنه بفعل الإغراءات التي يقدمهما المستفيدون من زراعة القنب الهندي بالمنطقة، أصبح العديد من المواطنين يتعاطون لهذه الأنشطة المحظورة، التي يرون فيها حلا لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية، فيما فضل آخرون كراء أراضيهم للاستفادة من المداخيل الباهضة التي يجنيها هؤلاء السماسرة، وهو الأمر الذي أدى إلى اتساع نطاق هذه الزراعة ليشمل جزءا كبيرا من أراضي الجموع والأحباس التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وكذا المساحات الغابوية التي أصبحت مهددة بشبح الاجتثاث والتدمير.
“ترتيكة” و”خردالة”، تهدد المجال البيئي للإقليم
إن إصرار العديد من الفلاحين التعاطي لما بات يصطلح عليه بـ “الذهب الأخضر”، أثر بشكل سلبي للغاية على المستوى البيئي بالمنطقة، خاصة المياه السطحية والجوفية، التي يتم استنزافها بواسطة حفر آبار عميقة تستخدم في عملية السقي بواسطة آليات متطورة، خاصة مع ظهور أصناف جديدة ذات إنتاجية مرتفعة كـ “ترتيكة” و”خردالة”، التي يصل طول جدعها في بعض الحقول البورية إلى مترين، وتستخرج من أوراقها مادة “الشيرا” بأوزان وافرة.
وأمام الحفر المكثف والاستنزاف المتواصل للثروة المائية بالمنطقة، انخفض بشكل كبير منسوب المياه الجوفية التي تغذي المنابع المائية والآبار القريبة من تلك الأودية، ما أدى إلى معاناة دواوير عديدة من ندرة في المياه، وشكل أيضا خطرا حقيقيا على الأحواض السقوية المتواجدة بحوض اللوكوس، التي تعتبر المورد المائي الوحيد لقطعان الماشية، لاسيما على طول المزارع المجاورة لوادي المخازن (قرب دوار بومعيزات ودوار أولاد علي مدنة التابعتين لجماعة سوق الطلبة)، وهو ما نتج عنه اختلال إيكولوجي يتمثل في تقليص المجال الرعوي بالمنطقة إلى أزيد من 70%، حيث أصبح الوضع يتطلب اتخاذ إجراءات صارمة وعاجلة لتقويمه.
“الكيف” منافس شرس للشمندر السكري
هذه الوضعية الشاذة اتسمت أيضا بآثار وخيمة على مستوى إنتاج الشمندر السكري، حيث ذكر مصدر مسؤول في معمل “سونابيل” لتكرير السكر بالقصر الكبير، أن المعمل عرف في السنوات الأخيرة نقصا كبيرا في التزود بمحصول الشمندر السكري، الذي كان يزرع بالجماعات القروية المذكورة، نتيجة تخلي عدد كبير من الفلاحين عن زراعته وتحويل أراضيهم الفلاحية، بشكل سري، إلى مساحات زراعية مخصصة لعشبة الكيف، وذلك في تحد صارخ لكل النصوص القانونية التي تبناها المغرب لمواجهة تطور انتشار هذه الزراعة، خاصة قانون عدد 1.73.282 الصادر في 21 ماي 1974.
وأضاف المصدر، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، أن المسؤولين عن قطاع السكر بالمغرب، قدموا تحفيزات هامة للفلاحين بهذه الجماعات من أجل التخلي عن زراعة “الكيف” والعودة إلى إنتاج الشمندر، حيث عملوا، خلال السنوات الماضية، على مضاعفة سعر الطن إلى مستويات تفوق السعر المعتمد لدى المصانع العاملة في مجال تكرير السكر بدول في أوربا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وقاموا بالتعاقد مع مؤسسات بنكية لتسريع نظام الأداءات وتمكين المنتجين من استخلاص مستحقاتهم بوكالات قريبة إليهم، إلا أنه بالرغم من كل هذه الامتيازات، يقول المصدر، أصر فلاحو المنطقة على مواصلة هذه الزراعة المحظورة.
وأكد المصدر ذاته، أن مزارعي هذه النبتة ليسوا المستفيدين الحقيقيين من هذه الزراعة المنبوذة، بل يعدون الحلقة الأضعف في هذا النشاط، الذي تديره شبكات تهريب المخدرات عبر الحدود، وتجني من ورائه أرباحا خيالية في ظل الفراغ الأمني الذي تشهده المنطقة، مشددا على ضرورة شن حملات جادة وواسعة لوقف زحف هذه الزراعة على الأحواض المائية والغابات والطرق والسدود بمناطق الشمال، مع التشجيع على العودة إلى الأنشطة الفلاحية المشروعة، وإطلاق بدائل اقتصادية لتحقيق تنموية حقيقية تتماشى مع روح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
حملات أمنية محتشمة
أمام هذا الوضع الخطير، فضلت السلطات المحلية والإقليمية أن تتقمص دور المتفرج، ونأت بنفسها عن أي اصطدام يمكن أن يتسبب لها في مشاكل هي في غنى عنها، باستثناء قيامها، بين الفينة والأخرى، ببعض الحملات المحتشمة التي تفوح منها رائحة التواطؤ، وتشارك فيها لجن مختلطة تظم عدة متدخلين من بينهم الدرك الملكي، وهو ما دفع بالسماسرة الكبار وعدد من ضعاف النفوس من فلاحي المنطقة إلى استغلال هذه الهدنة لتوسيع نطاق زراعة هذه النبتة الضارة.
وسبق للسلطات الإقليمية بالعرائش، أن شنت خلال سنوات 2005 و2006 و2007، حملات واسعة النطاق في عدد من الجماعات التابعة لها، وقامت بتدمير مساحات واسعة من مزارع قنب الهندي، موظفة لذلك إمكانيات مادية وبشرية هائلة مكنتها من إبادة مئات الهكتارات المزروعة بسنابيل “الكيف”، ما جعل الإقليم يتصدر قائمة الأقاليم الخالية من المخدرات، إلا أن عدم تقديم أي بديل تنموي حقيقي للنهوض بأوضاع الجماعات المتضررة، دفع بالسكان إلى تنظيم المسيرة الاحتجاجية حاشدة شارك فيها أزيد من 3 آلاف متظاهر من سكان جماعة أبي جديان وتطفت، وذلك كرد فعل على عدم الالتزام بالوعود المقدمة لهم من قبل السلطات المحلية والإقليمية والجهوية.
حقوقيون يتحركون
تتابع الجمعيات الحقوق المتواجدة بإقليم العرائش التطورات الأخيرة لزراعة الكيف بحوض اللوكوس باهتمام بالغ، بعد أن تفاقم الوضع وأصبح يمثل خطرا بيئيا حقيقيا على المجال الغابوي والأحواض السقوية والرعوية المتواجدة بالمنطقة، التي يطالها التدمير وتسير في الطريق إلى الزوال.
وأبدت فعاليات حقوقية وجمعوية محلية استنكارها ضد تواطؤ السلطات المحلية والإقليمية، التي تتغاضى بشكل مفضوح عن التصدي للسماسرة والمتشبثين بزراعة المخدرات، ما أدى إلى تفاقمها واستقوائها على حساب الزراعات المعيشية الأخرى، وأصبحت تهدد علاقات التلاحم الاجتماعي ومسار التنمية بالمنطقة.
وسبق لعدد من الجمعيات المهتمة، أن أصدرت بيانات في الموضوع، طالبت من خلالها الجهات المسؤولة بإنقاذ المنطقة من السماسرة المستفدين من هذا التوسع غير المسبوق، الذين يدسون حقوق المواطنين وينتهكون حرياتهم بسلاح الشكايات المجهولة الكيدية كوسيلة لإقناعهم وترهيبهم للانخراط في مشروعاتهم الإجرامية، مشددة على ضرورة إيجاد بدائل حقيقية وعاجلة للرفع من المستوى المعيشي لسكان المنطقة وإبعادها عن ويلات الفقر والهجرة والبطالة…
المختار الرمشي (الصباح)