لم تعد الحمامات العصرية وصالات التدليك “SPA” مجرد مراكز للراحة واستعادة التوازن الجسدي كما يتم الترويج لها، بل تحولت، خلال السنوات الأخيرة، إلى فضاءات تخفي وراءها عالما رماديا من الاستغلال والابتزاز، تتحول فيه الفتيات العاملات إلى ضحايا هشاشة اجتماعية واستغلال صامت، يعملن في ظروف قاسية بدون أي حماية قانونية، في ظل غياب مراقبة حقيقية لهذا القطاع الذي ينمو كالفطر بجل مدن المملكة.
فخلال السنوات الأخيرة، تناسلت هذه المراكز بطنجة بوتيرة لافتة، مستفيدة من الإقبال المتزايد على خدمات التدليك والعلاجات الجسدية، وهامش ربح مرتفع يغري الكثير من المستثمرين، إذ بمجرد الحصول على رخصة بسيطة مرتبطة بأنشطة شبه طبية أو جمالية، يفتح الباب أمام مشاريع لا تمت للترخيص بصلة، وتتحول إلى قطاع مواز ينمو دون قواعد واضحة، توظف فيه فتيات يخضن معركة يومية مع ظروف عمل قاسية لا تمت لثقافة “الرفاه” بصلة، معظمهن يشتغلن لساعات طويلة تتجاوز أحيانا عشر ساعات في اليوم، دون عقود قانونية أو حد أدنى من الضمانات الاجتماعية، وتحت رقابة صارمة من طرف المشرفات يتابعن أداءهن باستمرار ويفرضن عليهن معاملة الزبائن بمنتهى اللين، مهما كانت تجاوزاتهم أو إهاناتهم، وذلك في غياب أي تغطية صحية أو تأمين ضد حوادث الشغل، إذ تتحمل العاملات وحدهن تبعات الإصابات الجسدية المتكررة، بينما تقتطع من أجورهن الهزيلة مبالغ عند كل اعتراض أو رفض لطلبات ينظر إليها كجزء من “واجب العمل”.
وتكشف شهادات عدد من الفتيات العاملات في هذه الصالات، أغلبهن فتيات في مقتبل العمر يتوفرن على مؤهلات جسدية مغرية، (تكشف) عن معطيات صادمة تقلب الصورة الوردية التي تروج لها هذه المراكز، حيث أكدن أن أغلبهن يشتغلن دون عقود أو بعقود صورية لا تحميهن من أي طارئ، فضلا عن غياب التصريح لدى صندوق الضمان الاجتماعي وحرمانهن من التأمين الصحي والإجازات السنوية.
ومن بين الشهادات الأكثر إثارة تلك التي روتها شابة في بداية العشرينات، أكدت أنها تشتغل منذ مدة دون أي أجر شهري، بعد أن أقنعتها صاحبة الصالون بأن “عدد الزبناء هو من يحدد دخل المدلكات”، إلا أنه، تقول الشابة، “لحد الساعة، وبعد مرور أزيد من شهرين، لم أتلقى سوى نسبة مما يتركه الزبناء من “بقشيش”، وهو مبلغ غير ثابت لا يكفي أحيانا حتى لتغطية مصاريف التنقل”.
وتضيف الشابة، التي تحفظت عن ذكر اسمها، أن هذا الوضع يضعها في “حلقة استغلال مغلقة”، مبرزة أنها في حالة عدم إرضاء الزبون أو لم يستجب لأساليب “استدراجه”، تسجل عليها أن الحصة “فاشلة”، ويتم تهديدها بالطرد في حال تكرر الأمر، مؤكدة أن أصحاب محالات “السبا” لا يهمهم سوى عدد الزبائن الذين يعودون من باب “الرضا”، أما العاملات فينظر إليهن مجرد أدوات ينفذن الأوامر.
فتيات أخريات ذكرنا أن أصحاب هذه الصالات يتحكمون في أدق تفاصيل عملهن، بدءا من طريقة استقبال الزبون، مرورا بإدارة الجلسة، وصولا إلى القدرة على استدرار رغباته الجنسية، وهي معايير أساسيا للاستمرار في العمل، إذ يطلب من المدلكة، خلال الحصة التي قد تمتد لساعتين، بإثارة حواس الزبون و”إزاحته تدريجيًا” عن الغرض العلاجي الذي جاء من أجله، إلى حين دفعه إلى طلب خدمات إضافية تدر على الصالون أرباحا أكبر. وفي حالة فشلها في بلوغ هذا الهدف، يكون الطرد هو المصير الأقرب، في ظل غياب أي حماية قانونية أو مساندة اجتماعية.
ورغم أن هذه الصالات أصبحت في الآونة الأخيرة مصدرا مهما لتوفير مناصب الشغل للفتيات القادمات من أوساط اجتماعية هشة أو الباحثات عن فرص عمل سريعة لا تتطلب مستوى دراسي عالي أو خبرة مهنية، إلا أن هذه المعادلة الإيجابية سرعان ما تنهار أمام واقع الاستغلال الذي يطبع القطاع. فغالبية العاملات لا يستفدن من أبسط الحقوق المرتبطة بالتصريح القانوني أو الحماية الاجتماعية، ويتعرضن لشتى أشكال الابتزاز والاحتقار، في ظل فراغ قانوني يسمح لأصحاب هذه المحلات بالتحكم في مصير العاملات كما يريدون ويشاؤون.
هذا الواقع المعقد يجعل صالات التدليك والحمامات العصرية تتحول من واجهات براقة تسوق للرفاه إلى فضاءات هشة تستنزف فتيات في عمر الزهور تحت غطاء قانوني فضفاض ومراقبة محدودة، حيث يظل السؤال مطروحا حول كيف يمكن تحويل هذا النشاط إلى قطاع منظم يوفر فرص عمل آمنة وصحية، بدل أن يبقى مجالا مفتوحا لاقتصاد الظل واستغلال فتيات يعانين من الهشاشة الاجتماعية.
المختار الرمشي (الصباح)
