ارتفعت في الآونة الأخيرة بطنجة، وثيرة الاحتجاجات المعارضة لتحويل حدائق المندوبية إلى مرأب تحت أرضي للسيارات، واعتبرت هيئات سياسية ونقابية وجمعوية المشروع “جريمة” في حق الآثار التاريخية المتبقية عن الحقبة الدولية للمدينة، ومسا خطيرا بالجانب البيئي المتمثل في “إعدام” عدد كبير من الأشجار العتيقة والنباتات النادرة.
وشهد فضاء حدائق المندوبية، المجاور للمدينة العتيقة وسط طنجة، طيلة الأسبوع الماضي، سلسلة من الوقفات الاحتجاجية لهيئات المجتمع المدني والعديد من النشطاء البيئيين، رجالا ونساء، الذين يرفضون رفضا قاطعا أي مساس بهذا المتنفس الطبيعي، ووقفوا في وجه السلطات المحلية والشركة المفوض لها من قبل الجماعة الحضرية بإنشاء مرائب تحت أرضية بالمدينة، مانعين إياها من مباشرة أشغال الحفر والتهيئة، التي اعتبروها تدميرا ممنهجا لإرث تاريخي وذاكرة مشتركة بين ثقافات إنسانية متعددة.
وانطلقت الشرارة الأولى للوقفات الاحتجاجية مباشرة بعد أن حطت بالمكان شركة “صوماجيك”، المشرفة على تنفيذ المشروع، وعملت على تسييج الحديقة بحاجز من الزنك قبل أن تستقدم جرافاتها وأدواتها اللوجستية استعدادا لبدء الأشغال، وهو ما أثار حفيظة عدد من النشطاء الجمعويين والحقوقيين بالمدينة، الذين قرروا التصدي للشركة لإرغامها على توقيف أشغال الحفر، في انتظار ما ستؤول إليه الاجتماعات والمشاورات الجارية بين السلطات المحلية ومجلس الجماعة.
حقوقيون وبيئيون يستنكرون
أمام هذه الأجواء المشحونة، بادرت هيئات جمعوية وحقوقية وبيئية بمدينة البوغاز، إلى الإعلان عن رفضها انتهاك حرمة هذا الفضاء التاريخي، معتبرة ترخيص الجماعة لشركة بعينها “استهتار” بموقف القوى الحية بالمدينة، و”سلوك أرعن” يقوي مصالح الشركات ووحوش العقار على حساب الرأسمال الحضاري للمدينة وساكنيها.
وفي هذا الصدد، أعلن كل من مرصد حماية البيئة والمآثر التاريخية، والتكتل الجمعوي بطنجة الكبرى، ومؤسسة طنجة الكبرى للشباب والديمقراطية، في بلاغات منفصلة، (أعلنوا) مساندتهم للقوى الحية بالمدينة وانخراطهم في الجهود الرامية للدفاع عن هذا الإرث التاريخي، محذرين من التوظيف “الانتخابي” لهذا الملف، داعين في نفس الوقت إلى التعبئة العامة وخوض كافة الأشكال الاحتجاجية التي يسمح بها القانون للوقوف أمام هذه الكارثة البيئية المحتملة، ومواجهة أطماع وحوش المال والعقار.
نشطاء “فايسبوك” يتحركون
من جهتهم، أطلق نشطاء “طنجاويون” على مواقع التواصل الاجتماعي حملة تدين الاستهداف الجائر لذاكرة المدينة التاريخية والطبيعية، التي تعد حدائق المندوبية جزء أصيلا منه، وتستنكر محاولة السطو على هذا الموروث دون أية دراسات احترازية، وفي غياب تام لأي تشوير أو معلومة رسمية حول المشروع.
كما أطلق نشطاء شباب في مدينة البوغاز صفحة تحت عنوان “شباب لوقف إعدام حدائق طنجة”، أبرزوا من خلالها المكانة التاريخية والمميزات البيئية لحدائق المندوبية، معلنين تثمينهم لكل الخطوات النضالية للديناميات الشبابية والجمعوية الرافضة لإجهاز على الفضاء المذكور، الذي يحظى بقيمة كبيرة في قلوب “الطنجاويين”.
هيئات سياسية تدخل على الخط
وانخرط في هذه الحركة الاحتجاجية غير المسبوقة هيئات سياسية ونقابية معروفة بقربها من السلطات المحلية، وعلى رأسها حزب “التجمع الوطني للأحرار” و”الإتحاد الدستوري” و”الأصالة والمعاصرة”، التي عبرت، في بيان موجه للرأي العام، عن استنكارها للصمت والتواطؤ المكشوف بين والي الجهة، محمد امهيدية، ومسؤولي حزب العدالة والتنمية، الذين يسيرون الشأن الجماعي للمدينة، متهمين إياهم بالمشاركة في جريمة الإجهاز وتدمير جزء من تاريخ وهوية المدينة، داعين عمدة طنجة، البشير العبدلاوي ، إلى تحمل مسؤوليته التاريخية والإنصات إلى صوت الساكنة التي يمثلها، وعدم التورط في هذا ملف وصفه البيان بـ “المشبوه”.
غموض في موقف “البيجدي”
في خطوة مفاجئة، عبر حزب العدالة والتنمية عن موقفه بخصوص عمليات الحفر التي طالت حدائق المندوبية وأدت إلى استنكار مختلف الفعاليات بالمدينة، وأبدى، في بيان أصدرته الكتابة الإقليمية للحزب بطنجة أصيلة، تضامه مع مختلف الفعاليات الرافضة للمس بهذا الموروث، مؤكدا دعمه للخطوات والمبادرات الكفيلة بالحفاظ على جمالية المدينة وتثمين موروثها الثقافي والحضاري والبيئي الضارب في القدم.
واعتبر عدد من المتتبعين للشأن المحلي بطنجة، أن بيان “البيجيدي” يشوبه نوع من الغموض والتناقض، لاسيما أن المجلس الجماعي للمدينة، الذي تتكون أغلبيته من حزب العدالة والتنمية، هو من رخص بإنشاء مرأب تحت أرضي بالمنطقة يقوم على أنقاض هذه الحديقة التاريخية، وأعطى الضوء الأخضر لتدمير جزء من تاريخ وهوية المدينة.
الرد الرسمي للجماعة
بعد فترة التزم فيها المجلس الجماعي الصمت المطبق إزاء هذه القضية الشائكة، خرج أخيرا إدريس الريفي التمسماني، نائب عمدة مدينة طنجة، بتصريح أكد فيه أن الأشغال المزمع القيام بها بالحديقة مشابهة لباقي المناطق الأخرى التي أنجزت بها مرائب تحت أرضية، مبرزا أن الشركة المفوض لها بذلك ملتزمة بإعادة الحديقة إلى ما كانت عليه قبل إنشاء المرأب المذكور.
وأوضح التمسماني، في تصريح صحفي، أن المشروع تم الإعلان عنه منذ عام 2013 ويدخل ضمن ما دشنه الملك في إطار مشاريع طنجة الكبرى، مؤكدا أن الجماعة واعية برمزية المكان وستراقب مراحل الإنجاز إلى أن تعود الساحة إلى ما كانت عليه وفقا لما يفرضه دفتر التحملات، مشددا في نفس الوقت على أهمية المرائب تحت الأرضية ودورها المحوري في التخفيف من حجم الاكتظاظ والضغط الذي تعرف شوارع المدينة.
والي الجهة يتدخل
بعد الغضب الشعبي الكبير والجدل الذي أثارته انطلاقة الأشغال بحدائق المندوبية، أصدر محمد امهيدية، والي جهة طنجة تطوان الحسيمة، خلال الأسبوع الماضي، تعليماته بإحداث لجنة لتتبع هذه القضية، وأمر بإنجاز تقرير مفصل حول حيثيات إدراج مشروع بناء مرأب تحت أرضي على حساب فضاء تاريخي يجسد لجزء من تاريخ المدينة.
وبحسب المعلومات المتوفرة، فإن اللجنة باشرت عملها واتصلت بجميع الجهات المعنية (الجماعة والشركة وهيئات من المجتمع المدني)، إذ من المرتقب أن تعرض، في غضون الأيام القليلة المقبلة، تقريرها على والي الجهة من أجل دراسته واتخاذ المتعين بشأنه.
المختار الرمشي (الصباح)