رغم التحول الكبير في نمط الحياة لدى سكان مدينة طنجة، وتأثرهم القوي بتقدم وسائل التكنولوجيا والمعلوميات، خاصة بعد أن أصبحت جل المعاملات والأنشطة التجارية تتم عبر الإنترنت، أصرت القيساريات العتيقة والأسواق الشعبية على البقاء والاستمرار، وحافظت على وجودها أمام تناسل عدد من التجمعات والمراكز التجارية الكبرى، التي غطت مختلف مناطق المدينة، وأصبحت تقدم منتوجات ذات جودة عالية وتخدم زوارها بتقنيات وأساليب متطورة.
ومن بين القيساريات التي ظلت صامدة في وجه هذا التطور الحضاري السريع، نجد قيسارية “عين اقطيوط” التاريخية بطنجة، التي تعتبر أقدم قيسارية بمدينة البوغاز والمنطقة الشمالية عموما، إذ لازالت تستقطب يوميا آلاف من المواطنين من جميع الشرائح والفئات الاجتماعية، الذين ما فتئوا يقصدونها لاقتناء ما يحتاجونه من ملابس وعطور وآثاث منزلية وغيرها…
ويعود تاريخ بناء هذه القيسارية الشهيرة، التي تقع بمحاذاة حي المصلى العتيق، إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي، بعد أن كانت في البداية عبارة عن مجموعة من البراريك، التي تم تحويلها إلى منشأة تجارية لتلبية حاجيات سكان المدينة، وتتكون من حوالي 450 محل تجاري موزعة على طابقين، أغلبها متخصص في الأثواب والألبسة الخاصة بالنساء والأطفال، بالإضافة إلى المنتوجات المستوردة من الدول الأسيوية، وكذا القادمة من مدينة سبتة المحتلة، التي تتميز بالجودة والثمن المناسب.
وبالرغم من إحداث عشرات القيساريات والأسواق الشعبية بمختلف أحياء المدينة، وافتتاح عدد من المراكز التجارية الكبرى (مول)، التي تقدم لزبنائها كل ما يحتاجونه من الماركات العالمية، ظلت قيسارية “عين اقطيوط” محافظة على وجودها واستمراريتها طيلة هذه السنوات، إذ لا زالت تستقطب يوميا آلاف من الزبناء من مختلف الفئات والشرائح، خاصة في المناسبات الدينية والأعياد، وذلك عطفا على موقعها المتميز، وكذا وفرة البضائع وتنوعها، بالإضافة إلى انخفاض أثمنتها وتناسبها مع القدرة الشرائية لأغلب المواطنين، الذين يعانون من الفقر والهشاشة الاجتماعية.
وفي هذا السياق تقول (ز.ش) صاحبة محل تجاري لبيع ملابس وأغراض النساء والأطفال بقيسارية “عين اقطيوط” إن “سبب توافد هذه الأعداد الكبيرة من المواطنين على القيسارية لشراء ملابسهم وحاجياتهم الخاصة، لا يرتبط بوفرة السلع أو انخفاض الأثمنة، بل هو مرتبط أساسا بثقافة المجتمع والإرث الحضاري الذي يسلم من جيل إلى جيل، خاصة أن جل الزبناء اعتادوا منذ زمن طويل على التسوق من القيسارية ذاتها، ولا يمكنهم تغييرها والذهاب إلى الأسواق التجارية الممتازة، التي لا تقبل عليها سوى الفئات الميسورة”.
إحدى المتسوقات، أكدت في حديثها أن قيسارية “عين اقطيوط” تعتبر بالنسبة لها الأنسب بالمدينة، وتقصدها دائما رفقة أسرتها وصديقاتها للتزود بالألبسة والأثواب وبعض اللوازم النسائية، خاصة أن أصحاب المحلات يملكون خبرة كبيرة في البضائع المعروضة ويرشدون زبنائهم إلى اختيار ما هو جيد ومناسب، كما يمنحونهم فرصة الآداء بالتقسيط (كريدي)، وهذه ميزة لا تتوفر لدى المحالات التجارية المتواجدة بالأسواق الكبرى.
من جهة أخرى، عبر عدد من التجار بالقيسارية ذاتها، عن استيائهم وتدمرهم الكبيرين لما آلت إليه أحوال التجار بهذه القيسارية، بعد أن تراجعت عائداتهم وأصبحوا مهددين بالإفلاس، مبرزين أن ذلك جاء نتيجة لمنافستهم من قبل الباعة المتجولين المعروفين بـ “الفراشة”، الذين صاروا يحتلون الشوارع المجاورة ويشكلون خطرا على أصحاب المحلات التجارية المتواجدين داخل القيسارية.
وقال أحد التجار، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، إن “قيساريتنا لم تعد وحدها فضاء للعرض، بل صارت تزاحمها أرصفة شارع المكسيك المجاور وتفرعاته، التي أصبحت بدورها مكانا يستغله هؤلاء الباعة لعرض منتوجاتهم المختلفة، بما فيها المصنعة محليا والمهربة أو المستوردة، ويبيعونها بأثمنة منخفضة جدا مقارنة بالأثمنة التي نبيع بها نحن، لأنهم غير متابعين بمصاريف الكراء والكهرباء والرسوم والضرائب السنوية وغيرها…”.
واختتم المصدر كلامه بتوجيه نداء للقائمين على الشأن المحلي بالمدينة لحثهم على التدخل بجدية لمواجهة هذا الوضع الشاذ والغير قانوني، وإيجاد حل لهؤلاء “الفراشة” إنطلاقا من مبدأ “لكل بضاعة نظام وشروط لعرضها”، مبرزا أنهم (التجار) سئموا من الوعود الزائفة والحملات الموسمية المحتشمة، وسيكونون مضطرين، في حالة عدم تصحيح الوضعية الراهنة، لاتخاذ جميع الإجراءات النضالية المسموح بها للدفاع عن حقوقهم المشروعة.
المختار الرمشي (الصباح)