وسط فناء حديث البناء، لازالت جدرانه مكسوة بالإسمنت دون طلاء، تجد الشاب بنعيسى طيلة اليوم جالسا فوق عتبة طينية، وعلى محياه علامات الحزن والإرهاق، وهو يسترجع في مخيلته شريط رحلة “اختطافه” المدبرة، التي دامت أزيد من تسع سنوات ونصف، ضاق خلالها جميع أشكال القهر والعنف والعذاب، جعلته يفقد الأمل في عودته مرة أخرى لمسقط رأسه وحضن أسرته، ولقاء أصدقاء طفولته من جديد…
بنعيسى لم يكن سوى ذلك الشاب الذي تداولت قصته المثيرة على نطاق واسع بمواقع التواصل الاجتماعي، بعد عودته لأسرته التي سبق أن دفنته في غشت من سنة 2007، حينما تسلمت جثته داخل نعش مشمع من قبل المصالح الأمنية بسوق الأربعاء، التي أحضرت ملابسه وتصريح بالدفن مع تقرير طبي مسجل تحت رقم 355/07، أنجزه طبيب شرعي بمستشفى المدينة، يثبت أن الجثة تعود لصاحبها “بنعيسى” وأنه توفي غرقا بقناة للري، لتتقبل الأسرة المكلومة الأمر وتقوم بدفن جثة “ابنها” بمقبرة “أولاد مويسة” الجماعية.
وخلفت وفاة بنعيسى حزنا عميقا لدى أسرته وأبناء قريته، إذ لم يتمكن الأب من مقاومة حزنه وفراق ابنه الأصغر، ليغادر الحياة بعد ذلك بأيام قلائل، فيما ظلت الأم وفية لروح فلذة كبدها وواظبت على الترحم عليه كل جمعة إلى حين أن عاد من جديد بعد تسع سنوات ونصف على “وفاته”.
كما طرح رجوع بنعيسى علامة استفهام لدى سكان المنطقة، الذين شيعوا جنازة ودفنوا بمقبرتهم جثة شخص يجهلون هويته، وجعل كل أحاديثهم عبارة عن تساؤلات حول الجهة التي خططت ونفذت هذه الجريمة الغامضة، وما هي دوافع ارتكابها وإخفاء معالمها، وهي أسئلة ينتظر أن يكشف عنها التحقيق القضائي الذي أمرت به أخيرا النيابة العامة المختصة، وتباشره حاليا الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بمنطقتي الغرب والشمال.
بداية القصة
وقائع هذه القضية الشائكة، بحسب رواية مصطفى القصري، الأخ الأكبر لبنعيسى، تعود إلى غشت من سنة 2007، حين استجاب رب الأسرة عبد الرحمان لرغبة أحد أفراد عائلته (ك.س)، وهو من أعيان منطقة الغرب، الذي طلب منه السماح لابنه بنعيسى بالاشتغال معه بضيعته الفلاحية الواقعة بدوار أولاد سيدي بجاج (دائرة السوق الأربعاء الغرب)، حيث وافق الابن على العرض والتحق بالضيعة ليباشر مهمة رعي الأغنام مقابل مبلغ مادي متفق عليه مسبقا.
ولم تمر سوى عشرة أيام تقريبا، يقول مصطفى، حتى توصلت الأسرة بنبأ وفاة ابنها بنعيسى غرقا، فتوجه الأب مباشرة إلى المستودع الجماعي للأموات بمستشفى “اسكيرج” بنفس المدينة، ليخبره أحد ضباط الأمن بأن ابنه رمى بنفسه من فوق قنطرة وسط قناة مائية للري، توجد بطريق الرباط بالقرب من تجزئة بدر بسوق الأربعاء الغرب، ولقي مصرعه غرقا لكونه لا يحسن السباحة، معللا (الضابط) ذلك بشهادة شخصين ذكر أنهما عاينا الحادث، فتقبل الأب الخبر معتقدا أن وفاة ابنه حالة عادية ويمكن أن تحدث لأي شاب في المنطقة، ووقع على محاضر أنجزتها المصالح الأمنية دون التعرف على فحواها، ليتم بعد ذلك نقل جثمان “الهالك” إلى مسقط رأسه بدوار “طيايرة”، الواقع بجماعة ارميلات (إقليم سيدي قاسم)، بحضور ممرضة من المستشفى المذكور، وهي ابنة صاحب الضيعة، التي واكبت مراسيم الدفن وأصرت، بحسب مصطفى، على عدم فتح النعش في وجه الأسرة والعائلة، ليسدل الستار عن الجزء الأول من هذا المسلسل “الهتشكوكي” المشوق.
الحلقة المفقودة
حلقة المسلسل المفقودة، كشف عنها بنعيسى بعد عودته سنة 2015، حين سرد لأسرته عن مرحلة غيابه، وأكد أن ترحيله من الضيعة التي كان يشتغل فيها كان بسبب معاينته لجريمة قتل تورط فيها ابن صاحب الضيعة (م)، الذي أقدم على قتل أحد المستخدمين بواسطة قطعة حديدية أصاب بها الهالك على مستوى الرأس، قبل أن ينقل الجثة، بمساعدة شخص آخر يدعى (عادل)، إلى خارج الضيعة والرمي بها وسط قناة مائية مجاورة، مبرزا أن الجاني جرده من ملابسه وألبسه أخرى، وعمل على ترحيله ليلا بواسطة سيارة إلى منطقة يجهل موقعها، وسلمه إلى شخص آخر حمله على ظهر دابة إلى قرية جبلية معروفة بزراعة قنب الهندي (الكيف)، وحجزه هناك وسط إسطبل ممتلئ بالأغنام والأبقار.
كما أكد بنعيسى أنه ظل مدة طويلة داخل الإسطبل يقتات من الأزبال والأعشاب الذي تتغذى منها الأغنام، ويتعرض للضرب والتجويع كلما طالب بالخروج أو العودة إلى قريته وأسرته، إلى حين أن استأنس بوضعه الجديد، وكسب ثقة صاحب الإسطبل، الذي منحه مزيدا من الحرية وكلفه برعي الأغنام بالحقول المجاورة، وهو ما فسح له فرصة التعرف على أحد سكان القرية (أحمد)، الذي حكى له عن قصته وطلب منه أن يساعده في البحث عن أسرته.
بعد اليأس يأتي الفرج
مرت الأيام سريعة ولم يتوصل أحمد إلى معرفة المنطقة التي ينتمي إليها بنعيسى، إلا أن إصراره على تقديم خدمة إنسانية لشخص محتجز يعاني من اضطرابات نفسية حادة، زادت من حماسته وعزيمته، فقرر مضاعفة جهوده وتركيز بحثه على منطقة الغرب، إسنادا إلى اللهجة التي كان يتحدث بها بنعيسى، إلى أن اهتدى ذات يوم وهو في طريقه إلى القنيطرة، إلى الدوار الذي تتواجد فيه أسرة الضحية، فتنقل إليه والتقى بأفراد أسرته، الذين لم يصدقوا الخبر في الوهلة الأولى، إلا بعد رؤيتهم لصورة ابنهم وبعض تفاصيل طباعه، ليتوجهوا في نفس اليوم للدوار المذكور لإنقاذ ابنهم من محنة استمرت لسنوات طويلة.
وعند وصولهم إلى دوار أولاد علي بن نة، يقول أحمد الضعيف، امتنع صاحب الإسطبل (ب.ت)، وهو عضو بجماعة سوق الطلبة، عن تسليم بنعيسى لأسرته وأنكر وجوده، ليدخلا الطرفان في اشتباك كاد أن يتطور إلى الأسوء لولا تدخل عناصر الدرك الملكي، الذين تدخلوا وعملوا على إيقاف النزاع وتسليم بنعسى لأسرته بعد الاستماع لكل الأطراف وإنجاز المحاضر القانونية، التي لم يتم عرضها على النيابة العامة المختصة اختفت من أرشيف السرية تماما.
أم بنعيسى تستغيث
“ابني ليس في حالته الطبيعية ويحتاج لوقت طويل كي يستعيد عافيته”، كلمات رددتها الشريفة (أم بنعيسى) بنبرة حزينة وهي تحضن ابنها وتمرر كفها على رأسه كأنها لازالت لم تصدق رجوعه، مبرزة أن العذاب والقهر اللذان عانى منهما ابنها طيلة فترة اختطافه لازالت تلقي بظلالها على صحته الجسدية والنفسية، مناشدة جميع الجهات للتدخل من أجل إنصاف ابنها إنصافا فعالا، بما في ذلك الاعتراف بهويته القانونية بعد أن شطب عليه من كناش الحالة المدنية، وكذا البحث عن حقيقة وظروف الاختفاء ومحاكمة كل المتورطين في ذلك مع الجبر والتعويض.
النيابة العامة تتحرك
بعد معاناة دامت أزيد من ثلاث سنوات، تنقلت خلالها أسرة بنعيسى بين محاكم القنيطرة والقصر الكبير وسوق الأربعاء الغرب لمعرفة مآل شكايات وضعتها لديها في فترات مختلفة، وطرقت جميع الأبواب لإنصاف ابنها، تحركت أخيرا النيابة العامة وأعطت تعليماتها للفرقة الوطنية للشرطة القضائية بفتح تحقيق قضائي للكشف عن ملابسات القضية، وإعداد تقرير مفصل في الموضوع من أجل اتخاذ المتعين.
اثره قام محققو الفرقة الوطنية، الذين أوكلت إليهم مهمة التحقيق في هذه القضية الغامضة، بمباشرة تحرياتهم وتنقلوا، الأسبوع الماضي، إلى كل من القنيطرة والقصر الكبير، وعقدوا جلسات مغلقة استمرت لساعات استمعوا خلالها إلى أطراف لها صلة بالموضوع، إذ من المنتظر أن تتجه الأبحاث والتحقيقات الجارية في الموضوع، نحو فتح القبر وإخراج الجثة المدفونة به لإجراء تحليل للحمض النووي من أجل معرفة هوية الشخص المدفون.
المختار الرمشي (الصباح)