مرَّت مئة سنة على أنوال، أكبر انتصار للمقاومة المغربيَّة بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطَّابي ضد قوات المستعمر الإسباني. في معركة سُحق فيها الإسبان، وأسست لديكتاتورية عسكرية نفذت جرائم حرب ضد المغاربة، مازالت آثار أسلحتها الكيماوية باقية إلى الآن.
تُعتبر معركة أنوال التي انتصر فيها المقاومون من منطقة الريف بالمغرب ضد إسبانيا، التي تحلّ ذكراها المئوية 21 يوليوز 1921، منعطفاً تاريخياً.
المعركة التي بدأت بـ 18 بندقية فقط في يد مجاهدي الريف، بقيادة “أسده” محمد بن عبد الكريم الخطابي، اننتهت بسحق جيش الاستعمار اللإسباني كاملاً بالشمال الشرقي للمملكة.
عودة إلى تلك اللحظات المجيدة من تاريخ المقاومة المغربية، نعيد سرد تفاصيل هذا الحدث التاريخي المهم في منطقة غرب المتوسط بأسرها، والذي حدد في ما بعد مصيرَ البلدين بأسرهما، إسبانيا والمغرب. كما مصير ساكنة منطقة الريف شمال المغرب، التي ما زالت تعاني تبعات حملة الإبادة التي انطلقت بعد الهزيمة الإسبانية، باستعمال أسلحة كيماوية تُخلف إلى الآن ضحايا السرطانات المنتشرة في المنطقة، أمام تمسك مدريد بإنكار جرائمها التاريخية.
أنوال.. يوم هُزم الجيش الإسباني بالمغرب
في أواسط شهر يوليوز سنة 1921 بجبال الريف (شمال شرق المغرب)، كل التحصينات الدفاعية للحامية العسكرية الإسبانية المتمركزة ببلدة أنوال تساقطت في يد الثوار المغاربة. بعد أن استصغر قائد تلك القوات الاستعمارية، الجنرال سلفستري، تهديدات المقاومة الريفية بقطع خطوط إمداده مع مدينة مليلية المحتلة.
بالنسبة لقائد الثوار، “أسد الريف” كما دأب المؤرِّخون على تلقيبه، محمد بن عبد الكريم الخطابي، لا شيء يدعو إلى التسرُّع بل هو الوقت الأنسب للدخول في حرب استنزاف، ومحاصرة العدو لإضعافه أكثر ودفعه للتهور ومغادرة تحصيناته. ففي آخر المطاف، لم تكن قوات عبد الكريم تتعدى الـ1500 مقاتل، ضعيفي التسليح والتدريب، وبالتالي أي هجوم على الحامية الإسبانية سيكون بمثابة انتحار لجنوده وإعدام لحركته المقاومة.
غير أن ذلك القرار لم يخلُ من مخاطرة، ورغم امتيازهم الكامن في معرفتهم الكاملة بالجغرافيا التي يحاربون فيها، فقد كان العدو الإسباني يفوقهم عدَّة بسبعة أضعاف وعتاداً بأكثر من ذلك، كما يضم هو الآخر مرتزقة من أبناء المنطقة. وكذلك كان، بعد أن طال الحصار بالإسبان وكثر لديهم الجرحى وبدأت المؤن في النفاد، قرَّر الجنرال سيلفستري شن هجوم على مواقع المقاومين في الجبال المحيطة به.
ويوم 24 يوليوز بدأ الإسبان في قصف محيط معسكر الثوار بالطائرات والمدافع، في هجوم كان قد علم به عبد الكريم الخطابي قبل وقوعه ما منحه أفضلية الجاهزية. ومساء اليوم نفسه هاجم عدد من المرتزقة خنادق المجاهدين، غير أن سقوط قائدهم جعل بقية المرتزقة ينسحبون من المعركة عائدين صوب منازلهم حاملين معهم الأسلحة التي حصلوا عليها من عند المستعمر.
وبعد فشل هذا الهجوم تيقن الخطابي أن سلفستري سينسحب إلى ما وراء أنوال، لذلك أصدر أوامره بقطع خط العودة والسيطرة على جميع المسالك المؤدية إلى المراكز التي يسيطر عليها الإسبان، عبر تمركز القوات الثورية وكمونها على المرتفعات وقمم التلال والأحراش. فيما سيلفستري الذي فقد أعصابه عند تلك اللَّحظة، رفض التفاوض مع المقاومة المغربية، قرر الانسحاب عشوائياً، كي تتلقَّف قواتِه بعدها كمائنُ الثوار وبنادقهم التقليدية.
تجمع مصادر تاريخية أنه سقط في تلك المعركة أكثر من 18 ألف جندي إسباني، بما فيهم سيلفستري، الذي كان يراقب انسحاب الجيش من أنوال على قمة مرتفعة وهناك لمحه أحد الأهالي المسلحين، فتسلل نحوه وأطلق عليه النار فأرداه قتيلاً. ولم ينجُ من أنوال سوى فرقة بقيادة جينرال يدعى نافارو، كانت قد تُركت لتغطية الانسحاب، نجحت في الفرار من كماشة المقاومين نحو الشرق، إلى منطقة جبل العروي، حيث جرت ملاحقتها والقضاء عليها بعد أسر قائدها.
ويذكر عبد الكريم الخطابي في مذكراته متحدثاً عن انتصار أنوال: “ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77 ، وأكثر من 20 ألف بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتمويناً كثيراً يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم، وبالجملة، بين عشية وضحاها. وبكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشاً ونشنَّ حرباً كبيرة. وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح”.
هو الذي كان بالذكاء والحنكة الاستراتيجية التي مكّنته من استشراف سيرورة المعركة، وقيادة قواته نحو الظفر بها. كما من الترفق والرحمة اللتين جعلا حتى أسراه فيها يشهدون له بمكارم الأخلاق. حيث سجَّل التاريخ عنه تركه سريره مُستَراحاً للجنرال الإسباني نافارو الأسير لديه بعد معركة جبل عرويت، وكذا تصريحات أسيرته للصحافة الإسبانية بعد أن سألها أحدهم: “هل تشعرين بالخوف هنا؟”، لترد: “مِمّ أخاف؟ إننا نلقى معاملة طيبة وليس هناك ما نشكو منه”.