طنجة، المدينة العريقة التي تحتضن تاريخا قديما يعود إلى ما قبل الميلاد، وشهدت في السنوات الأخيرة اهتماما كبيرا من أعلى سلطة في البلاد، شمل تأهيل البنيات التحتية الكبرى وإنجاز مشاريع اقتصادية من الطراز الأول في مجالات النقل والصناعة وقطاع الخدمات اللوجستية… نجدها اليوم تصطدم بمشاكل هيكلية عميقة بسطت سيطرتها على مختلف مناحي الحياة، وتعيش على إيقاع غريب من التناقضات في القيم والسلوكيات والتنظيم والتدبير…
مشاكل طنجة وعيوبها لا تقتصر على جانب واحد فقط دون الآخر، فهي تتخبط في مشاكل كثيرة يمتزج فيها الجانب الاقتصادي بالاجتماعي والثقافي، بل وحتى البيئي والسياسي، ما دفع بجمعيات المجتمع المدني إلى دق ناقوس الخطر إزاء تفاقم عدد من المشاكل المتجلية في السكن غير اللائق والأسواق العشوائية واحتلال الملك العمومي وغياب النظافة في أغلب الأحياء التي تشتهر بتربية الأغنام والدجاج والأرانب فوق السطوح، ناهيك عن ظاهرة التسول والاتجار في المخدرات بكل أنواعها وأشكالها، وهي مظاهر وسلوكات تنتقل بالمدينة من وضعيات الحياة المعاصرة والزاهية، إلى مجرد حاضنة لـ “تفريخ” المجرمين و المتطرفين والسياسيين الفاسدين…
عشوائيات تخدش صورة المدينة
يشوب قطاع التعمير في عاصمة البوغاز، التي تعتبر بوابة المغرب على أوروبا والعالم، العديد من المشاكل والعراقيل التِي تخدش رونق المدينة وتهدد جودة الحياة بها، ومن أهمها البناء العشوائي الذي يمنعها من الرقي والازدهار، خاصة في ظل ازدهار مافيا العقار والمضاربين، الذين يستحوذون على عقارات الغير بمعية منتخبين ومسؤولين هم في الأصل المكلفين بالسهر على راحة المواطن وحمايته، ويضعون مسوغات تضخ عليهم أرباحا بالملايير.
ورغم الطفرة النوعية التي عرفتها طنجة في مجالات مختلفة، إلا أنها لم نجح في تحقيق أي قفزة نوعية في المجال السكاني، نتيجة انتشار مظاهر “الترييف” وانحلال النسيج الحضري للمدينة، بفعل تسارع وثيرة الهجرة، التي أصبحت جماعية بالأسر والعائلات، مما ساعد على انتشار السكن العشوائي بكل تجلياته، وساهم في توسيع الهوة بين أحياء خمسة نجوم، المتركزة بوسط المدينة كالبولفار وكاليفورنيا والرميلات والمنظر الجميل وغيرها… والأحياء الهشة التي تفتقر لأبسط متطلبات العيش الكريم، كأحياء بني مكادة والشوك والسانية ومسنانة والمرس…. التي لازالت تعيش على تقاليد قروية وتهتم بتربية الماشية والدواجن.
ولم تقتصر عملية تشويه المجال الحضري للمدينة على الأحياء الهامشية فحسب، بل تفاقمت بشكل خطير بعدد من الأحياء بوسط المدينة، التي ضبطت بها مخالفات من نوع آخر تتمثل في إنجاز بناء بدون ترخيص، والإخلال بضوابط السلامة، وعدم احترام متانة المباني، والغش في المواد المستعملة في البناء، والسطو على الأملاك العامة أو الخاصة… وهي خروقات يساهم فيها سماسرة وأعوان السلطة المحلية، الذين يسمحون بذلك مقابل هدايا نقدية أو عينية.
احتلال الملك العمومي
ظاهرة احتلال الملك العمومي بطنجة، تعتبر من أهم الإشكالات التي تواجه تنظيم المجال وتطويره بالمدينة، إذ في الوقت الذي يتساءل فيه السكان عن الظروف والملابسات التي منحت فيها السلطات المعنية تراخيص بفتح العديد من المقاهي والمطاعم في دكاكين لا تتوفر فيها الشروط القانونية، يستغرب المرء لصمت السلطات المحلية عن احتلال أصحاب المقاهي ومحلات الأكلات السريعة والباعة الجائلين للأرصفة المجاورة، دون مراعاة لحياة المواطنين، الذين أصبحوا يمشون وسط الطريق جنبا إلى جنب مع السيارات والدراجات، بل الأدهى من ذلك أن بعضهم يعتبر أن استغلال الملك العام حقا مشروعا، وقام بضمه إلى ملكه الخاص عن طريق بنائه أو تسييجه، في غياب أي المراقبة سواء الإدارية أو القضائية.
يقول أحد النشطاء الجمعويين بالمدينة، أن ظاهرة احتلال الملك العمومي أصبحت قاعد ولم تعد استثناء، مبرزا أنه بالرغم من تهاطل الشكايات على مختلف المصالح المعنية، تعمل السلطات بين الفينة والأخرى على تنظيم حملات محتشمة يقوم بها أعوان السلطة المحلية ومعهم بعض أفراد القوات المساعدة، الذين يعملون على حجز بعض طاولات وكراسي المقاهي أو سحبها إلى الخلف، إلا أنه بعد وقت قصير تعود الحالة إلى ما كانت عليه، كما لو أن هناك اتفاقا سريا بين الجهات المعنية وأصحاب هذه المحلات يخول لهم الاستغلال والتملك.
طنجة مدينة التسول بإمتياز
لم تعد ظاهرة التسول في طنجة تتسم بطابعها التقليدي وصورتها النمطية المعتادة، التي كانت تقتصر فقط على عدد قليل من المعوزين والمرضى وكبار السن ممن انقطعت بهم السبل ويحتاجون حقا للعون من أجل لقمة العيش، بل عرفت في السنوات الأخيرة أشكال جديدة وأنماط مريبة أضحت تسيء لصورة المدينة كوجهة سياحية مميزة.
فطنجة، التي كانت في فترة من الفترات تستقطب مشاهير العالم في الفن والأدب والسياسة والثقافة، أضحت اليوم تحطم الأرقام القياسية في استقطاب المتسولين من مدن مختلفة ودول افريقية وأسيوية وأوربية، ينتمون لجميع الفئات العمرية بما فيهم النساء والأطفال الصغار والشباب وشيوخ، الذين تمتلئ بهم، منذ طلوع الفجر إلى ما بعد منتصف الليل، أهم الشوارع الرئيسة بوسط المدينة والأسواق الشعبية والمساجد والمستشفيات والساحات والفضاءات العمومية وعند مفترقات الطرق وبالإشارات الضوئية…
فظاهرة التسول في مدينة البوغاز، تعرف الآن تصاعدا مخيفا وأخذت أبعاد جد مقلقة بعد أن أصبحت عادة لدى الكثير من ممتهني هذه “الحرفة”، خصوصا بعد حطت بها وفود من المدمنين على التسول القادمين من مدن ومناطق مغربية مختلفة، وكذا شريحة من المرشحين للهجرة السرية، مغاربة وأفارقة وسوريين، الذين التجأوا للتسول بعد أن سدت في وجوههم سبل العبور إلى الضفة الأخرى، واضطروا إلى تكوين تجمعات سكنية بعدد من الأحياء الهامشية وخلف أسوار الأراضي العارية والمزابل… وهي سلوكات ومظاهر أصبحت تمثل مشكلا حقيقيا بالنسبة للسلطات الأمنية، التي عجزت عن التحكم فيه والسيطرة عليه.
قطاع النظافة.. منظومة متهالكة
واقع قطاع النظافة وتدبير النفايات المنزلية بطنجة، الذي تدبره شركتي “أرما” و”ميكومار” بصفقة توافقية ناهزت 30 مليار سنتيم، بنسبة 60 في المائة من ميزانية الجماعة، يعد من أفشل القطاعات على مستوى التدبير المفوض بالمدينة، نتيجة عدم وفاء الشركتين بوعودهما في تجويد القطاع، وإنزال الاستراتيجية المتفق عليها في عقد التدبير، وعلى رأسها الاستثمارات.
فقطاع النظافة عرف مدا وجزرا منذ تفويضه للشركتين المذكورتين، إذ رغم تطمينات مجلس الجماعي لا زالت المدينة تعاني من تراكم النفايات، التي بدأت تؤرق السكان صغارا وكبارا، بسبب تردي الخدمات بشـقيها المتعلقين بعملية جمع النفايات المنزلية، وكذا تنظيف الشوارع والساحات العمومية، ما حدا برؤساء المقاطعات الأربع بتقديم تنبيهات للشركتين بعد تراكم الأزبال وانتشارها بأغلب الأحياء والشوارع، وحثها على تجويد خدماتها وتطوير أسطولها المتهالك، وحل مشاكلها مع العمال والمستخدمين، الذين يؤثرون على صيرورة العمل بفعل الإضرابات المتكررة.
المرافق الصحية.. خلل بيئي فادح
تعاني طنجة، وهي مدينة العبور والسياحة والقطب الاقتصادي وملتقى الحضارات، من نقص شديد في المراحيض العمومية، ما ساهم بشكل كبير في ظهور “مبولات” مكشوفة في العراء، تنتشر في عدد من الحدائق والنقط الحساسة بالمدينة، كحديقة ساحة الأمم والمحيط المجاورة لساحة “الفارو” (سور المعكازين)، وكذا بجوانب الكنيسة الكاثدرالية بالحي الإداري قرب ولاية الأمن، وبمحيط بناية “الكفراد” المقابلة لمحكمة الاستئناف… وهي مواقع استراتيجية أصبحت موبوءة تتصاعد منها روائح كريهة تمتزج فيها خمائر النفايات بإفرازات البول والغائط.
وأجمع كل المتتبعين والمعنيين بالشأن البيئي بطنجة، على أن عدم توفر مرافق وتجهيزات صحية في متناول كل المواطنين لقضاء حاجتهم دون حرج، خاصة الأطفال والمسنين والمرضى، يرجع بالأساس لغياب “ثقافة النظافة” لدى المسؤولين المحليين، بما فيهم المجلس الجماعي وباقي المتدخلين إقليميا وجهويا، الذين يجهلون الأهمية القصوى لدورات المياه العمومية والصرف الصحي بالنسبة للعيش البشري، لا سيما في الفضاءات ذات الاستعمال المشترك، باعتبارها مرآة تعكس حالة ومستوى تنمية بلد ما، وتمس بشكل مباشر قضايا الصحة والبيئة وحقوق الإنسان، حسب ما سجلته تقارير المنظمة الأممية في الموضوع.
إشكاليات النقل العمومي
لا زال سكان طنجة يعانون الأمرين مع وسائل النقل العمومي بمختلف أصنافه وفئاته، أثناء تنقلاتهم داخل المدينة وبضواحيها، إذ أصبح الظفر بمقعد على متن سيارة تاكسي أو حافلة يشكل تحديا حقيقيا أمام شريحة واسعة من المواطنين، خاصة الذين لم تساعدهم أوضاعهم المادية والاجتماعية على امتلاك سيارة خاصة، لا سيما في ظل اتساع أطراف المدينة وتزايد عدد سكانها.
ومن أجل الوقوف على حجم معاناة سكان المدينة وزوارها، يكفي التوقف بأحد الشوارع الرئيسة عند محطة من محطات حافلات النقل الحضري، أو بمحطات سيارات الأجرة لتشاهد كيف يظل المواطنون ينتظرون في ظروف سيئة وسيلة لإركابهم، وكيف يتسابقون ويتدافعون من أجل الحصول على مقعد للوصول إلى مساكنهم أو مقرات عملهم، قبل أن يلجأ أغلبهم إلى عربات النقل السري، الذي تحول إلى قطاع مستقل قائم بذاته، وأصبح هو المنقذ الرئيسي للمواطنين في مثل هذه الحالات، حيث يلجأ إليه المواطنين للتخلص من عناء الانتظار، رغم أن ثمن الرحلة لا يختلف عن أسعار حافلات نقل العمومي وسيارات الأجرة ..
وبحسب عدد من المهنيين في قطاع النقل، فإن عدد سيارات النقل السري في طنجة يقدر بمئات العربات من مختلف الأصناف، وهي تتحرك داخل المدينة وخارجها أمام أعين رجال الأمن والدرك دون أن يطال أصحابها أي إجراء قانوني، إلا أنه بالرغم من كل المخاطر التي تنطوي على اللجوء إلى هذه الوسائل، سواء على متن عربات النقل السري أو المزدوج التي تشتغل خارج نطاق القانون، إذ نجد أن أغلب المواطنين يضحون براحتهم ويقبلون مرغمين ركوب هذه العرابات التي تفتقر إلى أبسط معايير السلامة.
المختار الرمشي (الصباح)