ما إن يدق الجرس وينادي العون بصوت مرتفع “محكمة”، حتى يخيم صمت رهيب على القاعة المخصصة للقضايا الجنائية الابتدائية باستئنافية طنجة، وتتجه الأنظار نحو رجل ستيني يمشي بخطى ثابتة، توحي عيناه وملامحه بجديته وصرامته. إنه القاضي عبد اللطيف الغماري، رئيس غرفة الجنايات الأولى، الذي أضحت هيبته وحدها كفيلة بجعل كبار المجرمين يتلعثمون في كلماتهم أمامه، قبل أن تسقط عليهم أحكامه كالصاعقة.
حين يدخل القاضي عبد اللطيف قاعة الجلسات يتغير كل شيء، تتوقف الهمسات، وتجف حلوق المتهمين، فيما يهب الدفاع لترتيب مرافعاته بالجدية اللازمة، قبل أن يبدأ في تصفح عشرات الملفات المعروضة أمامه، التي يديرها بحكمة واحترافية دون كلل أو ملل، إذ في الوقت الذي يبدو فيه التعب على محيا المتقاضين ودفاعهم تجده يزداد حماسا بحثا عن الحقيقة لإحقاق العدالة وإصدار أحكام رادعة في حق كل من هدد أمن الناس وطمأنينتهم.
فبمجرد ما عين الغماري باستئنافية طنجة، تغير إيقاع المحاكمات، ولم يعد المتهمون يدخلون بنفس الجرأة، ولا الدفاع يرافع بنفس البرودة. أحكامه القاسية والمشددة لم تكن مجرد أرقام أو سنوات، بل كانت رسائل قوية في وجه كل من سولت له نفسه انتهاك كرامة المواطن أو سلبه حياته أو ممتلكاته، إذ في حضرته أصبحت العدالة أكثر قيمة وهيبة، خاصة في قضايا القتل العمد والاختطاف والاغتصاب وتكوين العصابات الإجرامية والاعتداء على المواطنين…
ومن بين القضايا الشهيرة التي بت فيها القاضي عبد اللطيف، كان من أبرزها ملف الطفل عدنان، الذي اختطف وهتك عرضه قبل قتله عن طريق الخنق، وقضى في حق الجاني حكما بالإعدام، ما خلف ارتياحا عاما لدى سكان المدينة، واعتبر تتويجا لحملة المطالبة بالقصاص.
كما أصدر حكما مشابها في قضية تصفية مستثمر في قطاع “الطب البديل” يتحدر من مدينة الدار البيضاء، الذي أجهز عليه “عشاب” يحمل الجنسية المصرية، بعد أن اختطفه بمساعدة مواطن مغربي، وحولا جثته إلى أشلاء قبل أن يضرما النار فيها ودفنها بغابة ضواحي طنجة، لأسباب نابعة عن خلافات تجارية بين الطرفين.
أما الجلسة التي دخلت تاريخ محاكم الجهة، فكانت تلك التي استمرت 22 ساعة متواصلة، نظر خلالها في ملفات متفرقة، وأصدر في حق 88 متهما أكثر من 180 سنة سجنا نافذا، بعد أن واجههم بتهم تتعلق بتكوين عصابات إجرامية، ومحاولات قتل، والاختطاف واغتصاب، وسرقة موصوفة.
ورغم هذه الصرامة، لم يكن الغماري بلا قلب، إذ في واحدة من القضايا التي شغلت الرأي العام، وتوبع فيها شاب اقتحام وكالة بنكية بنية السرقة، بعدما عجز عن شراء دواء لوالده المحتضر، إلا الغماري أصدر في حقه حكما مخففا صفق له الحاضرون، تقديرا لتوازن نادر بين روح القانون وعدالة الوضع الإنساني.
في كواليس المحكمة، وصفه زملاؤه بالرصين والمتحفظ، دقيق في مواعيده، صارم في المداولات، قليل الخروج، لكنه حاضر الذهن. لم يكن يتهاون مع أي وثيقة، وكان يصر على استعراض الأدلة داخل الجلسات بنفسه، محولا المحكمة إلى فضاء حي للعدالة لا مجرد مسرح للطقوس القضائية.
محامون وموظفون يتحدثون عنه باحترام كبير، أحدهم قال إنه “كان صدمة للمجرمين وبشرى لضحاياهم”، وآخر أكد أنه “حتى السجناء كانوا يهابونه، وكانت أحكامه تتداول داخل الزنازن كما تتداول الأخبار العاجلة”.
عند إعلان تنقيله إلى الحسيمة، خيم جو من الحزن على المحكمة، وعبر موظفون ومحامون عن أسفهم لفقدان قاض استثنائي، شكل طيلة سنوات صمام أمان قانوني في قضايا تعتبر من أخطر ما عرضته الجنايات، وسيظل اسمه محفورا في ذاكرة طنجة، في زمن كانت الأحكام تكتب بلغة لا يفهمها إلا من عاشوا فصولها عن قرب “لغة الردع والحق والمهابة”.
عبد اللطيف الغماري في سطور
ولد عبد اللطيف الغماري سنة 1962 بمكناس، وتخرج ضمن الفوج الذي سيعرف لاحقا بتجربة القضاة الصارمين في المغرب. بدأ مسيرته نائبا لوكيل الملك بابتدائية الحسيمة، ثم قاضيا بنفس المدينة، قبل أن ينتقل إلى وجدة مستشار بمحكمة الاستئناف، ثم وجه لاحقا إلى تطوان حيث بت في ملفات ثقيلة، من بينها “ملف منير الرماش”، أحد أخطر ملفات الجريمة المنظمة في المغرب، ليواصل بعدها مساره نائبا لرئيس المحكمة الابتدائية بفاس، قبل أن يعين رئيسا لغرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بطنجة، وهو المنصب الذي خلد أهم فصول تجربته القضائية.
المختار الرمشي (الصباح)