لا تزال قضية تخصيص مربعات مرقمة لممارسة التسول عند مدخل مقبرة “الرحمة” بالقصر الكبير، تثير تفاعلات واسعة في أوساط سكان المدينة، الذين فجروا، على منصات التواصل الاجتماعي، موجة من السخط والاستياء، معتبرين إياها “نموذجا صارخا على اجتهادات غير محسوبة” تسيء لكرامة الفقراء وتنتقص من حرمة الموتى، وبمثابة دليل على فشل واضح في ترتيب أولويات الشأن المحلي.
ووفق المعطيات المتداولة محليا، فقد تم إعداد هذه المربعات على شكل مساحات صغيرة مرقمة، لا تتجاوز مساحة الواحدة منها مترا مربعا، جرى تحديدها عند مدخل المقبرة لفائدة عدد من ممتهني التسول، يسمح لهم باستغلالها أيام الجمعة والمناسبات الدينية، التي تشهد إقبالا من المواطنين على زيارة موتاهم، في خطوة وصفت بأنها محاولة لـ”تنظيم الصدقة” داخل فضاء جنائزي، يفترض أن تحكمه السكينة والاحترام.
وتراوحت ردود الفعل بين مستنكر لما اعتبر “شرعنة للتسول”، وساخر من “تنظيمه بمربعات مرقمة عند بوابة المقبرة”، وكتب أحد المعلقين “ننتظر من الجماعة حلولا للفقر، لا تنظيما له في شكل مربعات”، فيما علق آخر بمرارة “لماذا لا يفتح طلب عروض لاختيار أفضل متسول؟”، بينما اعتبر آخرون أن ما جرى “صورة مصغرة عن فوضى أكبر يعيشها تدبير الشأن العام بالمدينة”.
من جهته، اعتبر أحد الحقوقيين بالمدينة، أن ما وقع يمثل تجاوزا خطيرا في تدبير الشأن المحلي، واستهتارا واضحا بحقوق وكرامة الفئات الهشة، فضلا عن كونه يخالف القوانين المنظمة للمجال العمومي وحماية الأحياء والموتى على حد سواء.
وقال المتحدث ذاته “إن تخصيص مساحات مرقمة لممارسة التسول داخل فضاء جنائزي مقدس، يعد انتهاكا صارخا للقيم الأخلاقية والاجتماعية، ويعكس غياب رؤية واضحة لدى المسؤولين المحليين، الذين كان من المفروض أن يكونوا حارسين على الكرامة وحامين للنظام العام، إذ بناء على ذلك، يقول المصدر، إن “الجهات المختصة يتوجب عليها فتح تحقيق قضائي شامل في هذا الملف، وتحميل المسؤولية القانونية لكل من ثبت تورطه، حتى لا تتحول المدينة إلى نموذج للتسيب والعبث المؤسسي.”
وفي اتصال مع يوسف الريسوني، الكاتب العام لجماعة القصر الكبير، أوضح أن الجماعة لا تتحمل مسؤولية ما حدث، مؤكدا أن المبادرة قامت بها جمعية محلية تربطها بالجماعة شراكة تقتصر على جوانب مرتبطة فقط بالحفاظ على نظافة المقابر وتنظيم أوراش للتشجير داخلها، وأن خطوة تخصيص مربعات مرقمة للمتسولين لم تكن موضوع أي اتفاق أو تشاور مسبق مع مصالح الجماعة.
وأضاف المتحدث أن رئيس الجماعة سارع فورا إلى الاتصال بالجمعية المعنية ومطالبتها بالتراجع الفوري عن هذا الإجراء، نظرا لعدم ملاءمته لطبيعة المكان ولحساسية الموضوع من الناحية الاجتماعية والأخلاقية، واصفا ما أقدمت عليه الجمعية بـ”الاجتهاد غير الموفق”، الذي لا يعكس لا توجهات المجلس الجماعي ولا أولوياته في تدبير الشأن المحلي، مؤكدا أن الجماعة، باعتبارها مؤسسة منتخبة، تضع ضمن أولوياتها تعزيز كرامة المواطنين وتحسين ظروفهم الاجتماعية، مشيرا إلى أنها ستعيد تقييم شروط الشراكات المبرمة مع مختلف الفاعلين، تفاديا لتكرار مثل هذه الانزلاقات مستقبلا.
وتعيد هذه الواقعة تسليط الضوء على إشكالية تدبير الهشاشة داخل الفضاء العمومي، وعلى حدود الشراكات المحلية حين تغيب عنها الرؤية والرقابة، إذ مهما كانت نواياها، قد تتحول إلى اجتهادات صادمة تمس جوهر الكرامة الإنسانية، وتحول الفضاءات العامة، بما فيها المقابر، إلى فضاءات لعشوائية وسوء التنظيم.
المختار الرمشي (الصباح)