تختلف أجواء الاحتفال بقدوم السنة الميلادية بالمغرب من مدينة إلى أخرى، فإذا كان أغلب المغاربة يقضون ليلة رأس السنة بمنازلهم لمشاهدة التلفاز، فإن هناك فئة أخرى تستيقظ ليلا للاحتفاء بهذا اليوم بالشرب والرقص، بعضهم تجره أقدامه إلى ملاه وعلب ليلية بحثا عن المتعة، والبعض الآخر تجبره الظروف على الذهاب إلى فضاء هو مقر عمل ومصدر رزق.
في وسط شفشاون يخيل للزائر أن سكان المدينة الصغيرة، الواقعة بشمال المملكة، نائمون ويغطون في سبات عميق. البرد القارس طرد كل المواطنين من الشارع العام. سيارات من مختلف الماركات، أغلبها مستتر بلون زجاجها الداكن، اصطفت أمام بوابة أحد الفنادق المصنفة بالجوهرة الزرقاء، فيما يكتفي رجال الأمن الخاص باستقبال الزبناء وتقديم التهاني بحلول السنة الجديدة، دون طرح أسئلة أو التحقيق مع الوافدين على العلبة الليلية الموجودة بقبو الفندق.
“لاطارط للجميع“
بعد نزول الدرج، تسمع موسيقى صاخبة تكسر هدوء المدينة الصغيرة، ودفء الأجواء بالعلبة الليلية يضفي خصوصية على المكان. رجل خمسيني ببذلة أنيقة وربطة عنق، يبدو من لهجته ولكنته أنه من غير المستقرين بشفشاون، حجز طاولتين، وإلى جانبه سيدتان، إحداهما تجاوزت الخمسين، رغم إصرارها على الظهور أكثر شبابا بكثرة المساحيق، والثانية في الثلاثين، بلباس يكشف مناطق حساسة من جسدها، اختارت الاحتفال بعيد ميلادها في البار، وسط هتافات وتصفيقات الحضور، وعلى إيقاع أغنية “هابي بورث داي تو يو”، طلبها المرافق الخمسيني خصيصا لهذه اللحظة. بينما تكلف النادل بتقطيع “حلوى العيد” وتوزيعها على كل الحاضرين، في مشهد يدل على كرم حاتمي.
إطلالة سريعة على بطاقة المشروبات الروحية تبين أن أثمانها صاروخية، إذ أرخص جعة لا يقل ثمنها عن 40 درهما. مغنية “بنت المدينة” بسروال جينز ضيق، تجلس فوق كرسي المنصة المخصصة للفرقة الموسيقية، يقابلها جيش عرمرم من الشباب يرقصون ويتمايلون مع ما يقتضيه إيقاع أغنية مصرية طلبها أحد الشباب دون تقديم “الغرامة“.
زبائن البار من مختلف الأعمار، شيب وشباب ومن الجنسين (بنات من خارج شفشاون)، وفئة قليلة من السياح. وإذا كان الزوار تظهر عليهم “آثار النعمة”، بقمصانهم الأنيقة وأحذيتهم البراقة وعطورهم من النوع الراقي وهواتفهم المحمولة التي هي من آخر طراز، فإن أهل الجوهرة الزرقاء والنواحي، خصوصا باب تازة وباب برد، بارزون للعيان من خلال طريقة لباسهم التقليدية (جلابة و”كبوط” مصنوع من الخرقة المزركشة و”الحَبة”)، ينفثون سحبا من دخان السجائر و”السبسي“، الذي يعتبر تناوله أمرا عاديا أمام الملأ، فنحن في شفشاون.
الساعة تشير إلى الـ 11 ليلا، تترجل المغنية الشابة للجلوس إلى جانب “مولات الحفلة” مناولة الميكروفون للمرافق الخمسيني، الذي أبى إلا أن يغني لصديقته أغنية مغربية تفاعل معها الكل بعدما لعبت الخمرة بعقول غالبيتهم.
الكمنجة حاضرة
انتهت حصة غناء الشابة السمراء وجاء الدور على” مول الكمنجة” وفقرة الغناء الجبلي، التي عجلت بدخول “الفيادر” لتجنب حدوث أي مناوشات أو فوضى محتملة، فالكل يرقص. شاب بلباس رياضي و”سبرديلة” من نوع “إريمكس” يتمايل مع زميل له، على جرة الكمنجة، يقول إنه حجز ثلاث طاولات، وأن بإمكانه المبيت والإقامة معه إن لم يحجز بعد. رائحة البيرة “تعطعط” من فم يبرز أسنانا مسوسة وابتسامة كئيبة بفعل “الكماية“.
قهقهات ترتفع هنا وهناك. في الجهة المقابلة سياح إسبان يضحكون على طريقة رقص شاب “مغيب”، لاسيما وقوفه في وضعية صنم جامد مغمض العينين، رافعا يديه معا إلى السماء، وصوت الموسيقى الجبلية “شاخضة“.
بين الفينة والأخرى تصطف طوابير السكارى أمام بوابة المرحاض الوحيد بالعلبة الليلة من أجل إفراغ مثانتهم، التي تكاد تنفجر بسبب كثرة الشرب، وقد استغلوا فترة الانتظار لتبادل أطراف الحديث مع بعضهم البعض وترديد متمنيات الصحة والعافية.
وعكس دفء الأجواء بـ”الحفرة”، يبدو الجو باردا جدا في الخارج. حارس سيارات في عقده الخامس يتجمد في مكانه، ويسابق عجلات السيارات لالتقاط دراهم معدودات من المغادرين، في انتظار إشراق شمس السنة الجديدة، وكأن دفء أشعتها سيغيب كل ما سبقه من “ويل كحل“.
عن موقع هسبريس