مساجد أوروبا.. بسيطة ومهيأة لأداء الواجبات الدينية في احسن الظروف

مساجد أوروبا.. بسيطة ومهيأة لأداء الواجبات الدينية في احسن الظروف

14 مارس, 2025

بقلم: عبد العزيز حيون

لقد تأتى لي، والحمد لله، أن أزور العديد من دول العالم، مضنها دول إسلامية وعربية كثيرة وكذلك دول العجم الأوروبية، ووقفت خلال هذه الزيارات على سلوكات إنسانية متضاربة ومختلفة وأحيانا متنافرة ومتناقضة ،لعل أبرزها يتعلق بتدبير المساجد ودور العبادات ،وهو يأخذ طابعا فريدا يستحق أن يروى.

وأكاد أجزم أن تدبير مساجد كثيرة في أوروبا في غاية الإتقان ويؤدي ما يجب أن تكون عليه مساجد المسلمين لتعطي النموذج الأفضل عن المسلمين، خاصة في البقاع البعيدة التي لا يصلها الا الوزر القليل عن الإسلام ومعلومات قد تكون غير مكتملة و”مشوشة” في أحيان كثيرة لأغراض معينة.

وأيضا أكاد أجزم أن مساجد الكثير من دول شرق أوروبا ،على سبيل المثال وليس الحصر، أحسن بكثير من المساجد التي تقع في دول عربية ، ليس من الناحية الهندسية ولا من الناحية الجمالية ولا من ناحية التنميقات المعمارية والزرابي المبثوثة ،بل أقصد أن مساجدهم بسيطة جدا ومهيأة لأداء الواجبات الدينية الخالية من التكلف الزائد عن ولا إسراف في التزين والإبداع ولا مراءاة ولا تباهي .

وكم أعجبت شخصيا بمسجد عمرانه بسيط بحي “ساديبا ” بالعاصمة البولونية وارسو ، التي قضيت فيها زهاء خمس سنوات كمدير لقطب وكالة المغرب العربي للأنباء بأوروبا الشرقية وهي المهام التي مكنتني أيضا من زيارة عدد من دول البلقان وآسيا الوسطى وشرق أوروبا ،وقد يأتي الحديث مستقبلا عن مساجدها وأحوال المسلمين بها .

لقد انبهرت فعلا من طريقة تدبير المسجد ،الذي تؤدى فيه الصلوات الخمس وصلاة الجمعة ويتوجه إليه عدد كبير من المصلين الذين يأتون من مختلف أحياء المدينة المليونية ،وهم من جنسيات مختلفة (من دول عربية ومن الشيشان الروسية ومن طاجيكستان وماليزيا وبلغاريا وصربيا وأوزبكستان وكازاخستان وأندونيسيا ..)،تجمعهم عقيدة الإسلام ونوره وتوحيد الله وطاعته

ويسهر على تسيير  شؤون المسجد جمعية ينتخب أعضاؤها كل سنتين للتطوع  في تدبير مرافق المسجد وقضاء حوائج المسلمين والسهر على ضمان السير العادي لهذا المكان المقدس، الذي يذكر فيه اسم الله في دولة أعجمية ذات أغلبية  كاثوليكية .

 ويحرص متطوعو المسجد على تنظيف المسجد مرتين على الأقل في الأسبوع ويوميا خلال شهر رمضان الفضيل وقبل الأعياد الدينية ،وعلى طلاء الجدران وصباغة مختلف مرافق المسجد ،واستقبال عابري السبيل و الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل والعناية بهم وقضاء حوائجهم ،كما من مهامهم الدفاع عن قضايا المسلمين لدى أولياء الأمر في البلاد واستقدام الخطباء والدعاة خلال المناسبات الدينية .

وأثارني أيضا وجود ثلاثة صناديق في بهو المسجد لجمع الصدقات والتبرعات وزكاة المسلمين ،وهي معروضة أمام الملأ ،ولم تتعرض محتوياتها ولو لمرة واحدة للسرقة أو السطو

الصندوق الأول مخصص لتدبير شؤون المسجد وتغطية الاحتياجات ولتسديد فواتير أداء مصاريف الماء والكهرباء والتدفئة واقتناء الزرابي وما الى ذلك من حاجيات ،إذ لا جهة مؤسساتية تقدم دعما خاصا للمسجد الذي يعتمد كليا على ما ينفقه مسلمو المدينة أو زوارها من المسلمين أيضا ..

الصندوق الثاني للفقراء والمساكين من المقيمين وللعائلات التي توجد في ضائقة مالية أو أزمة مالية خانقة أو ليس بمقدورها أداء واجبات التمدرس أو التطبيب

 والصندوق الثالث للتكفل مؤقتا بعابري السبيل حتى يجتازوا محنتهم  و للمسافرين الذين ليس معهم شيء يستعينوا به على سفرهم لأسباب معينة ولبعض الطلبة الذين تشتد وتقسو عليهم الظروف ..

كما أثارني تخصيص القيمين على المسجد غرفة فسيحة للصدقات العينية ،بمعنى أن كل شخص أراد التصدق بالمنتوجات الغذائية “حلال” أو غيرها من المواد دعما لمعاش الأسر المحتاجة وهي مستوفية لشروط التخزين ،وما على المتصدق إلا دخول الغرفة ووضع مالديه من بضاعة ، أكان ذلك قليلا أو كثيرا .كما يمكن للمتصدق أن يقدم المصاحف وأغطية الرأس وكتبا دينية وأدوات مدرسية

وتدبر هذه الصدقات العينية ببساطة وثقة دون وجود أي شخص يراقب ،فبعد انصراف المتصدق الى حال سبيله  ،يدخل الأشخاص الذين هم  في حاجة الى المواد المعروضة  ويأخذون ما تيسر من أمر لتدبير أمورهم وتجاوز محنتهم المؤقتة دون إسراف ولا استغلال الوضع .

والمسألة تعتمد على نية الشخص الذي هو في حاجة الى ما يوجد في غرفة “الصدقة العينية” كما تسمى ،بمعنى أن كل شخص معني يأخذ القدر الذي يحتاجه ليترك المجال لمحتاج آخر ،وينصرف دون أن يشاهده أي شخص آخر حتى تبقى في عداد “صدقة السر” التي لها أجر عظيم وثواب جزيل عند الله تعالى ولحفظ ماء وجه المحتاج وعدم إحراجه .

وشخصيا لم ألاحظ طيلة مقامي ببولونيا نقصا فيما يعرض من صدقات عينية أو اختفت المعروضات بالمرة أو وقع خصاص ما وهي توجد دائما بكميات وفيرة ..

كما توجد في المسجد غرفة ثانية بها ألبسة متنوعة معروضة ،نظيفة ومصففة باتقان حسب المقاسات والجنس ويتم فرز هذه الألبسة حسب فصول السنة ،وهناك جناح خاص للأطفال ،وهي بطبيعة الحال مخصصة للمحتاجين والفقراء والمساكين .ومن يشرف على تنظيف وترتيب هذه الملابس هن النساء المسلمات المتطوعات المتواجدات في هذا البلد الأوروبي النائي .

ولا بد لي أن أشير أيضا الى أن الأحذية والنعال لا توضع داخل المسجد ،فعلى المصلي أن يضع ما يلبسه من حذاء في مكان مخصص في فناء المسجد بعيدا عن مكان الصلاة ،ولم أسمع مرة أن سرقت الأحذية ،كما يحدث عندنا للأسف بين الفينة والأخرى بفعل المتربصين بالمصلين ومنعدمي الضمير .

أضف الى ذلك أن مجلس جماعة وارسو ، المدينة المليونية العريضة التي تمتاز بنظافتها وجماليتها ورونقها العمراني الأخاذ ، خصصت خطوطا للحافلات تربط بين وسط المدينة وموقع المسجد ، الذي يوجد في حي راقي ، لتسهيل انتقال المصلين من المسلمين ،كما يحرص المجلس أيضا على تنظيف محيط المسجد يوميا وتشذيب الحديقة المجاورة له ،احتراما لبيت المسلمين ،الذي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ  .

بقي أن أشير الى أن خطبة الجمعة وخطبتي العيدين تلقى بثلاثة لغات ، البولونية والإنجليزية والعربية ، لتعميم الفائدة الدينية  وتأطير المسلمين وتوجيهم على اختلاف لسانهم ،كما تعلم اللغة العربية ويحفظ فيه القرآن  وتعطى فيه دروس قواعد التجويد وأحكامه والتفقيه في الدين من طرف متطوعين متخصصين ، الذين لا يعطى لهم أجر أو مكافأة ما .

هذه مساجدهم ولكم الحكم ،ولله في خلقه شؤون وعلى قدر الهدف يكون الاجتهاد ….

التعليقات

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*