لوكا مودريتش.. حين يصبح رماد الحرب وقودًا للمجد الكروي

لوكا مودريتش.. حين يصبح رماد الحرب وقودًا للمجد الكروي

24 مارس, 2025
ترجمة بتصرف :عبد العزيز حيون
 في حكاية إنسانية تفيض بالمعاني والدلالات، وتتقاطع فيها المأساة مع الأمل روتها صحيفة “آس” الإسبانية، يرسم النجم الكرواتي لوكا مودريتش ملامح مسار معقد وفريد، يشهد على قدرة الإرادة البشرية على مجابهة قسوة القدر، وتحويل المعاناة إلى مصدر إلهام وإبداع وعطاء واجتهاد ، حيث تجلت كينونة الإنسان وصيرورة الإبداع في أجلى مظاهرها.
ففي مدينة زادار الساحلية، إحدى مدن إقليم دالماتيا الكرواتي، ازداد لوكا مودريتش سنة 1985، في مرحلة عصيبة كانت فيها يوغوسلافيا تترنح تحت وقع التوترات العرقية والانقسامات السياسية. وما لبثت أن تحولت تلك التوترات إلى حرب شاملة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وعرفت هذه الحرب الهوجاء أبشع فصولها في كرواتيا والبوسنة والهرسك، وأسفرت عن مآسٍ إنسانية عميقة.
كان مودريتش، حينها، لا يتجاوز السادسة من عمره، حين هزّ قريته الصغيرة “زاتون أوبروڤاتسكي” حدث مأساوي تمثل في اغتيال جده لأبيه على يد ميليشيات صربية معروفة آنذاك بـاسم “التشيتنيك”. وأجبر هذا الحادث الدموي أسرته على الفرار من القرية، ضمن موجات نزوح جماعية شملت آلاف العائلات الكرواتية، لتبدأ معاناة لجوء طويلة ومحفوفة بالمخاطر.
وجدت الأسرة ملاذها المؤقت في مدينة ماكارسكا، حيث أقامت في مركز خاص باللاجئين، قبل أن تستقر لاحقًا في فندق “كولوفاري” بمدينة زادار، وهو فندق تم تحويله إلى مقر لإيواء العائلات التي تعرضت للتشرد والتهجير القسري . وهناك، وتحديدًا في ساحة موقف السيارات التابعة للفندق، بدأت أولى خطوات لوكا في عالم كرة القدم، التي سرعان ما تحولت إلى رئة يتنفس بها وسط الحصار والحرمان.
ويقول مودريتش، في إحدى شهاداته المؤثرة: “ما أرعبني أكثر من كل شيء لم يكن القنابل بحد ذاتها، بل صفيرها المدوّي في الهواء قبل أن تضرب هدفها… كنا نركض كل مرة إلى أقرب ملجأ، ولم نكن نعرف إلى متى ستظل رؤوسنا آمنة”.
ورغم شحّ الإمكانات والوسائل وقساوة الواقع، أظهر الفتى الكرواتي موهبة فطرية مبكرة، لفتت انتباه المدرب المحلي توميسلاف بايسا، الذي أشرف على تكوينه في مدرسة نادي “زد إن كي زادار”. 
ويصفه المدرب توميسلاف بايسا قائلاً: “كان أنحف الأطفال جسدًا، لكنه كان الأذكى على الإطلاق. تحكمه في الكرة كان مذهلاً منذ صغره، وكان دائمًا يتفوق على أقرانه كما على من هم أكبر منه سنًا”.
بفضل مساندة ودعم والده، الجندي السابق في الجيش الكرواتي، تمكن مودريتش من الالتحاق بأكاديمية دينامو زغرب، إحدى أعرق وأشهر مدارس التكوين في أوروبا الشرقية. وهناك، واصل مسيرته باجتهاد وصبر، متدرجًا في مختلف الفئات العمرية، إلى أن بدأ يشق طريقه نحو الاحتراف، وتمت بداية إعارته إلى نادي “زرينيسكي موستار” في البوسنة والهرسك، ثم بعد ذلك إلى “إنتر زابريشيتش”، وهي محطات صقلت شخصيته داخل وخارج الميدان.
وفي سنة 2008، انطلقت مسيرته الأوروبية من بوابة نادي توتنهام الإنجليزي، قبل أن يلتحق سنة 2012 بنادي ريال مدريد الإسباني، في صفقة أثارت بعض الشكوك حينها. لكن تلك الشكوك سرعان ما تبددت ، إذ سرعان ما أثبت مودريتش مكانته كلاعب  اساسي لا محيد عنه في تشكيلة الفريق الملكي، بفضل ذكائه التكتيكي، ورؤيته الثاقبة، وقدرته النادرة على ضبط إيقاع المباريات وإعطاء التمريرات الحاسمة التي نادرا ما تخطئ وجهتها .
أحرز مع ريال مدريد خمسة ألقاب في دوري أبطال أوروبا، وشارك في أكثر من 500 مباراة بقميص النادي، كما تُوّج بالكرة الذهبية سنة 2018، بعد أن قاد منتخب بلاده إلى نهائي كأس العالم في روسيا، في إنجاز غير مسبوق في تاريخ كرواتيا الكروي.
ولا تقتصر أهمية مسار لوكا مودريتش على البعد الرياضي فحسب، بل يتجاوزه إلى المجال الإنساني والثقافي، إذ يُعتبر “مثالا حيًا ونموذجا ملهما على أن الحرب، مهما كانت مدمّرة وقاسية، لا تستطيع اغتيال الحلم، ولا خنق صوت الموهبة. فقد أثبت مساره أن الإنسان قادر على تحويل الجراح إلى عطاء سخي، والمأساة إلى ملحمة، والإبداع إلى مقاومة ناعمة في وجه العنف والتاريخ الدموي والجروح  العميقة.
وقد شكّل حضور اللاعبين القادمين من منطقة البلقان إلى الليغا الإسبانية منذ تسعينيات القرن الماضي ، من أمثال بيدجا ميياتوفيتش، دافور شوكر، داركو كوفاتشيفيتش وغيرهم، علامة فارقة في تطور الدوري الإسباني، لكن تجربة مودريتش تبقى الأكثر نضجا وتأثيرًا، نظرًا لثقل إنجازاته ومساره الطويل والحافل والنموذجي .
وتبقى قصة لوكا مودريتش درسًا للإتعاظ وعبرة في الصبر والوفاء والأمل ، تروى لا فقط لتمجيد اللاعب “النموذج”، بل لتكريم الإنسان الذي قاوم بصمت، ونهض من وسط الدمار وركام الحرب ، وركض نحو ضوء الأمل والتفاؤل ،و ليس فقط  هربًا من الماضي التراجيدي ، بل بحثًا عن مستقبل يتطلع إليه ويستحقه، وإيمانًا بأن الكرة قد لا توقف الحرب، لكنها قادرة على ترميم ما تركته الحرب المدمرة من شروخ، وإلهام أجيال كاملة بأن المجد يولد أحيانًا من بين الأنقاض.

التعليقات

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*